المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : دمار الكون


محمدغريب 0
2015/11/05, 06:55 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
منذ أقدم الأزمان، كان الخلود - وما زال - هاجس الإنسان وقلقِه، وغايته التي لا تُدرك، وأمنيته العصيّة على التحقيق، وظلَّ رافضاً لفكرة الموت والفناء، مدفوعا بغريزة البقاء، أو بنرجسيته التي طالما صوّرته مختلفا من بقية المخلوقات ومتعاليا عليها، فعندما كان يرى غيره يموت ويذوي ويتحلل، ويندمج في نظام الطبيعة، اخترع لنفسه أسطورة الخلود، والحياة ما بعد الموت، وابتكر فنون التحنيط، ودفْن الميت بأبهى صورة مع مقتنياته الشخصية التي سيحتاجها في الدار الآخرة.
ليس هناك ما هو أغرب وأقسى من الموت، هو نهاية كل شيء، وبدايته .. بينه وبين الحياة خيط رفيع، هو نقيض الحياة، وهو أحد أشكالها في آن معاً، الحياة لا تعني شيئا للميت .. كما كانت لا تعني شيئا للحي قبل أن يولد .. فقبل أن يُولد الإنسان لم يكُ شيئا مذكورا، وبعد أن يموت سيصير نسيا منسيا .. وفي كلتا الحالتين، فإن ما في الكون لا يعنيه بشيء، لأنه ببساطة ليس من مكوناته. فالميت نفسه مثلاً لن يعني له الموت شيئا على الإطلاق، فهو لا يشعر لا بالألم ولا بالحزن ولا بلوعة الفراق.
وإذا كانت الحياة لا تعني شيئا للأموات، فإن الموت لا يعني شيئا للأحياء، فبمقدار ما يسبب الميتُ حزنا وكمدا لأحبّائه من الأحياء، إلا أن الموت بحد ذاته وفي واقع الأمر لا يعني أحداً، لا أحد يفكر فيه بالمعنى العميق، الحياة نفسها هي التي تعني كل شيء لكل إنسان. الميت لأنه ميت لا يدري ما حلَّ به، ورثَتـُه ربما يفكرون فقط بتركته، سواء كانت ثروة سينعمون بها، أم ديْنا سيزيدهم بؤسا، المشيعين ينتظرون انتهاء الجنازة ليستأنفوا أعمالهم، الطبيعة تنتظر الميت لتقوم بفعلها في جسده وتكمل دورتها .. إذن، لماذا نُسقط الموت من حساباتنا ؟ رغم قسوته، ورغم إيقاعه المخيف !؟
قد يكون الجواب في فهم سر الموت، فالموت في جوهره وجه من أوجه الحياة، وربما أحد أهم ضروراتها، ولأنه لا يحمل بحدوثه مفاجأة، إلا ما تمثله وقْع الصدمة على أحبّاء الميت، وهو وإن يأتي بغتة، إلا أنه تتويج لحالة مستمرة، فهو ينساب من حولنا بكل خفة، ويتسلل من النوافذ ومن تحت الباب، ونستجيب له ببطء وعلى دفعات، دون أن نحس به، لأن دبيبه هو نفس دبيب الحياة، فالأحياء أثناء حياتهم يموتون بأكثر من شكل: بيولوجيا يمارس الجسدُ الموتَ يوميا، فكل ما فيه يذوي ويتساقط: الشعر، الأظافر، خلايا الجلد، الدموع، كريات الدم الحمراء والبيضاء، إفرازات الجسم المختلفة، حتى أن أجسادنا بأكملها تتبدل في دورة العمر مرات عديدة، فلا يبق من أجسادنا التي حملتنا أطفالا شيئا يُذكر، وقد حل محلها جسد آخر وآخر ...
معنويا كل شيء قابل للموت والحياة من جديد: الأفكار، العواطف، المشاعر، الأمنيات، الذكريات، القيم ...
الحياة بمعناها الشمولي هي نتاج صراع الوجود والفناء، ترفع أحدهما مرة وتخفضه مرة أخرى، وتبقى مستمرة طالما أن الموت مستمر، فالموت حدثٌ دائب لا يتوقف، وهو ضرورة بالنسبة للطبيعة، ومأساة بالنسبة للإنسان، يصيبه في ذروة شبابه، ويصيب المجتمعات في ذروة عنفوانها ... نرى الموت بأعيننا، نتأثر لبرهة، ثم سرعان ما ننساه لنعود إلى حياتنا، ولكن تبقى مشاعرنا اللاواعية تتذكره، وعقلنا الباطن يتحداه أو يستسلم له، ويظل في أعماقنا رجفة منه، وقلق مبهم من زيارته الثقيلة.
الموت كما هو الجنس، بطل الحياة ولاعبها الأساسي، وهو كامن في كل شيء: في أعماق وعينا، وفي اللاشعور، وماثلٌ بكل حضوره الرهيب في قيمنا ودوافعنا وتصرفاتنا: الشجاعة تكمن قيمتها في كونها تتحدى الموت، الإصرار بحد ذاته وقوف في وجه الموت، الأمل هو مقاومة للموت، فلسفة الحياة هي تحايل على الموت، الدين في إحدى معانيه محاولة لبث الطمأنينة في النفوس الخائفة من الموت، وتعويضها بالحياة الآخرة. الفن محاولة للخلود ورفض لفكرة الموت، من خلال قصيدة أو أغنية أو لوحة تخلد صاحبها على مدى الأزمان، الحب هو تشبث بالحياة، ومحاولة لتمريرها للأجيال القادمة، وتهريبها من حواجز الموت عبر بطون الأمهات.
الكاتب والمفكر العراقي عبد الرضا جاسم يقول في مقالته الشيقة عن الموت: "لا يوجد متخصصين بأبحاث الموت، ولا معاهد لتدريسه وتخريج كوادر متخصصة به، ولكن يوجد الكثير ممن تخصصوا بإنتاجه، وتميزوا بنوعياته الرهيبة، من دكتاتوريين وعصابات وفرق للموت وإزهاق الأرواح، تحت أسماء وشعارات متعددة، وهؤلاء لم يتمكنوا من فهمه، وإنما اكتفوا بالتلذذ بإزهاق الأرواح وإنتاج أساليب جديد لتنفيذه والتفنن بذلك" .
ويطرح عبد الرضا العديد من التساؤلات عن ماهيّة الموت: "هل الموت شجاعا ليواجَه ؟! أم هو جبان يتحين الفرص للانقضاض ؟ هل الموت حاقدا على الحياة، أم هو محباً لها يريد إدامتها ؟
الموت يقسم الكائنات إلى أحياء وأموات، والحياة تقسّم نفسها إلى ثلاث مراحل متداخلة تفصلها خيوط وهمية، الماضي والحاضر والمستقبل، والذي يحدد اللحظة ونوعيتها هو شعورنا، إحساسنا تجاه ذاتنا وتجاه الوقت، نحنُّ إلى الماضي أو نهرب منه، نرفض الحاضر أو نرضخ له، ونخاف من المستقبل أو نتوق له، فإحساسنا ونبضنا هو الذي يعطينا زمننا الحقيقي المعاش، فنجعله ينساب بكل رقة، أو يمر بطيئا ثقيلا، بينما تواصل عقارب الساعة مسيرتها الرتيبة التي لم تتوقف لحظة منذ بدء الكون.
إذن، وعْينا هو الذي يحدد نوعية الحياة، والحب يمنحها قيمتها ومعناها، وبالحب يكتشف الإنسان أنه ليس مجرد ذَكر أو أنثى تعتريه رغبة وشهوة، سيكتشف بالحب أن له اسم وكيان، وأن شريكه الذي أَحبّه له اسم أيضا ولا يمكن أن يستبدله بآخر، وعندما يعثر أحدنا على شريكه، ويحبّه سيوْلد من جديد.

جلال العسيلى
2015/11/05, 08:23 PM
بارك الله فيك
وجزاك الله خيرا

رزق صبحى
2015/11/06, 12:08 AM
ﺑﺎﺭﻙ ﺍﻟﻠﻪ ﻓﻴﻚ
على الطرح الطيب

ga2015
2015/11/06, 09:47 AM
بارك الله فيك