المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جريمة الإسرائيليات المكذوبة في كتب التفسير


AbuHossam
2024/02/10, 08:30 PM
الإسرائيليّات: هي الفظائع التي أُدخِلت في كتب التفسير، وكتب الحديث، وكتب التاريخ، سميت بذلك نسبة إلى (بني إسرائيل)؛ وهي روايات لا يمكن نسبتها إلى (الإسلام)، وإن رواها بعض المنسوبين إلى (الإسلام)؛ فإنّ مصدرها كعب الأحبار، ووهب بن منبّه، وأمثالهما، وليست تلك الروايات، من آيات القرآن الكريم، ولا من أقوال الرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ لكي تنسب إلى (الإسلام)؟!

قال القرطبيّ: ((وإذ لم يصحَّ عنه فيه قرآن ولا سُنّة إلّا ما ذكرناه، فمن الذي يُوصل السامع إلى أيّوب خبره، أم على أيِّ لسان سمعه؟ والإسرائيليّات مرفوضةٌ عند العلماء على البَتات؛ فأَعرِض عن سُطورها بصرك، واصممْ عن سماعها أُذنيك، فإنّها لا تُعطي فِكْرك إلّا خيالًا، ولا تزيد فؤادك إلّا خبالًا))([1]).

وقال ابن تيميّة: ((وهذا ذكره ابن قتيبة في المعارف، وهو ومثله يوجد في التواريخ كتاريخ ابن جرير الطبريّ ونحوه وهذا ونحوه منقول عمّن ينقل الأحاديث الإسرائيليّة ونحوها من أحاديث الأنبياء المتقدّمين، مثل وهب بن مُنبِّه وكعب الأحبار، ومالك بن دينار، ومحمّد بن إسحاق، وغيرهم. وقد أجمع المسلمون على أن ما ينقله هؤلاء عن الأنبياء المتقدّمين لا يجوز أن يجعل عمدة في دين المسلمين، إلّا إذا ثبت ذلك بنقل متواتر، أو أن يكون منقولًا عن خاتم المرسلين))([2]).

وقال ابن كثير: ((ولسنا نذكر من الإسرائيليّات إلّا ما أذن الشارع في نقله، ممّا لا يخالف كتاب الله وسنّة رسوله r، وهو القسم الذي لا يُصدَّق ولا يُكذَّب، ممّا فيه بسط لمختصر عندنا، أو تسمية لمبهم ورد به شرعنا، ممَّا لا فائدة في تعيينه لنا، فنذكره على سبيل التحلّي به، لا على سبيل الاحتياج إليه والاعتماد عليه. وإنما الاعتماد والاستناد على كتاب الله وسنة رسول الله r، ما صحَّ نقله أو حسُن، وما كان فيه ضعف نبيِّنه، وبالله المستعان، وعليه التُّكْلان))([3]).

وقال أيضًا: ((وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية، لم أر تطويل الكتاب بذكرها؛ لأن منها ما هو موضوع من وضع زنادقتهم، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا، ونحن في غنية عنها، ولله الحمد. وفيما قصَّ الله تعالى علينا في كتابه غنية عمّا سواه من بقيّة الكتب قبله، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم))([4]).

وقال أيضًا: ((وقد روي في هذا آثار كثيرة عن السلف، وغالبها من الإسرائيليّات التي تنقل لينظر فيها، والله أعلم بحال كثير منها، ومنها ما قد يقطع بكذبه؛ لمخالفته الحق الذي بأيدينا، وفي القرآن غنية عن كلّ ما عداه من الأخبار المتقدِّمة؛ لأنها لا تكاد تخلو من تبديل وزيادة ونقصان، وقد وضع فيها أشياء كثيرة))([5]).

وقال أيضًا: ((والذي نسلكه في هذا التفسير الإعراض عن كثير من الأحاديث الإسرائيليّة؛ لما فيها من تضييع الزمان، ولما اشتمل عليه كثير منها من الكذب المروج عليهم، فإنهم لا تفرقة عندهم بين صحيحها وسقيمها، كما حرره الأئمّة الحُفّاظ المتقنون من هذه الأمّة))([6]).

وقال محمّد حسين الذهبيّ: ((والتفسير والحديث، كلاهما تأثَّر إلى حدٍّ كبير، بثقافات أهل الكتاب، على ما فيها من أباطيل وأكاذيب، وكان للإسرائيليّات فيها أثر سيّء، حيث تقبّلها العامّة بشغف ظاهر، وتناقلها بعض الخاصّة في تساهل يصل أحيانًا إلى حدّ التسليم بها، على ما فيها من سخف بيِّن، وكذب صريح، الأمر الذي كاد يُفسِد على كثير من المسلمين عقائدهم، ويجعل الإسلام في نظر أعدائه دين خرافة وتُرَّهات))([7]).

فقصّة يوسف عليه السلام تبدأ بقوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ﴾([8]).

وتُختَم سورة يوسف بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾([9]).

فالعجب، كلَّ العجب، من المؤلّفين القدامى، الذين يعرضون، عن أحسن القصص، البريء، كلَّ البراءة، من الافتراء، ثمّ يعكفون على روايات مكذوبة مفتراة، مملوءة بالفظائع والمنكرات، ينقلونها عن بعض أئمّة الكذب، أو عن بعض المخدوعين، الذين ينقلون عن أئمّة الكذب.

ولو قرأنا في القرآن الكريم، لوجدنا ما يثبت قطعًا براءة يوسف عليه السلام، من مقاربة الفاحشة، وما يثبت استعصامه، واستعفافه.

قال تعالى: ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ. وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ. وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ. فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ. وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ. قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ. قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ. فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ. ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾([10]).

وقال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ. قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾([11]).

لقد شهد الله سبحانه على براءة يوسف عليه السلام، وشهد على براءته شاهدٌ من أهلها، وشهد على براءته العزيزُ، وشهدت على براءته النسوةُ، وشهدت امرأةُ العزيز نفسُها، على براءته، وشهد إبليسُ على براءته، حين: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّ هُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ� �([12])؛ فاستثنى إبليسُ عبادَ الله المخلَصين من الإغواء، ويوسف عليه السلام واحد منهم، قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ� �([13]).

ولو نظرنا في الكتاب المقدَّس، لوجدنا أنّ يوسف عليه السلام واحد من الأنبياء، الذي سلِموا من مطاعن الـمُحـرِّفين، فقد جاء فيه: ((وَحَدَثَ بَعْدَ هَذِهِ الْأُمُورِ أَنَّ امْرَأَةَ سَيِّدِهِ رَفَعَتْ عَيْنَيْهَا إِلَى يُوسُفَ وَقَالَتِ: اضْطَجِعْ مَعِي. فَأَبَى وَقَالَ لِامْرَأَةِ سَيِّدِهِ: هُوَ ذَا سَيِّدِي لَا يَعْرِفُ مَعِي مَا فِي الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَا لَهُ قَدْ دَفَعَهُ إِلَى يَدِي. لَيْسَ هُوَ فِي هَذَا الْبَيْتِ أَعْظَمَ مِنِّي. وَلَمْ يُمْسِكْ عَنِّي شَيْئًا غَيْرَكِ، لِأَنَّكِ امْرَأَتُهُ. فَكَيْفَ أَصْنَعُ هَذَا الشَّرَّ الْعَظِيمَ وَأُخْطِئُ إِلَى اللهِ؟ وَكَانَ إِذْ كَلَّمَتْ يُوسُفَ يَوْمًا فَيَوْمًا أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ لَهَا أَنْ يَضْطَجِعَ بِجَانِبِهَا لِيَكُونَ مَعَهَا. ثُمَّ حَدَثَ نَحْوَ هَذَا الْوَقْتِ أَنَّهُ دَخَلَ الْبَيْتَ لِيَعْمَلَ عَمَلَهُ، وَلَمْ يَكُنْ إِنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ هُنَاكَ فِي الْبَيْتِ. فَأَمْسَكَتْهُ بِثَوْبِهِ قَائِلَةً: اضْطَجِعْ مَعِي! فَتَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ. وَكَانَ لَمَّا رَأَتْ أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ فِي يَدِهَا وَهَرَبَ إِلَى خَارِجٍ، أَنَّهَا نَادَتْ أَهْلَ بَيْتِهَا، وَكَلَّمَتهُمْ قَائِلةً: انْظُرُوا! قَدْ جَاءَ إِلَيْنَا بِرَجُلٍ عِبْرَانِيٍّ لِيُدَاعِبَنَا! دَخَلَ إِلَيَّ لِيَضْطَجِعَ مَعِي، فَصَرَخْتُ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ. وَكَانَ لَمَّا سَمِعَ أَنِّي رَفَعْتُ صَوْتِي وَصَرَخْتُ، أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ بِجَانِبِي وَهَرَبَ وَخَرَجَ إِلَى خَارِجٍ. فَوَضَعَتْ ثَوْبَهُ بِجَانِبِهَا حَتَّى جَاءَ سَيِّدُهُ إِلَى بَيْتِهِ. فَكَلَّمَتْهُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ قَائِلَةً: دَخَلَ إِلَيَّ الْعَبْدُ الْعِبْرَانِيُّ الَّذِي جِئْتَ بِهِ إِلَيْنَا لِيُدَاعِبَنِي. وَكَانَ لَمَّا رَفَعْتُ صَوْتِي وَصَرَخْتُ، أَنَّهُ تَرَكَ ثَوْبَهُ بِجَانِبِي وَهَرَبَ إِلَى خَارِجٍ. فَكَانَ لَمَّا سَمِعَ سَيِّدُهُ كَلَامَ امْرَأَتِهِ الَّذِي كَلَّمَتْهُ بِهِ قَائِلَةً: بِحَسَبِ هَذَا الْكَلَامِ صَنَعَ بِي عَبْدُكَ، أَنَّ غَضَبَهُ حَمِيَ. فَأَخَذَ يُوسُفَ سَيِّدُهُ وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ السِّجْنِ، الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ أَسْرَى الْمَلِكِ مَحْبُوسِينَ فِيهِ. وَكَانَ هُنَاكَ فِي بَيْتِ السِّجْنِ))([14]).

فواضحةٌ، كلَّ الوضوح، براءةُ يوسف عليه السلام، في القرآن الكريم، وفي الكتاب المقدَّس، مع ما بين الكتابين من اختلافات قليلة، في هذه القصّة، فلا أدري كيف ساغ، لبعض المفسِّرين القدامى، أن يعتمدوا على روايات مكذوبة مفتراة، ليس لها ما يُصدِّقها، حتّى في الكتاب المقدَّس المُحرَّف؟!

والأدهى من ذلك أنّ بعض أولئك المفسّرين القدامى، يدافعون عن تلك الروايات، أكثر من دفاعهم عن آيات القرآن الكريم، بل إنّهم قد أعرضوا عن دلالة الآيات، كلَّ الإعراض، وعمدوا إلى تلك الروايات، فاتّخذوها حُجّة على ما يدَّعون، فلا أدري ماذا أقول فيهم، وفي عقولهم؟!

والطبريّ والثعلبيّ والواحديّ أبرز أولئك المخدوعين المستمسكين بتلك الروايات، وقد رووا الكثير من تلك الروايات السقيمة الأثيمة، التي نَسَبَت إلى يوسف عليه السلام من مقاربة الفاحشة، ما يُناقِضُ كلام الله سبحانه.

وردَّ الفخرُ الرازيُّ على من نَسَب تلك التهمة إلى يوسف عليه السلام، فأجاد، كلَّ الإجادة، ولا سيّما حين قال: ((هؤلاء الجُهّال الذين نسبوا إلى يوسف u هذه الفضيحة، إن كانوا من أتباع دين الله تعالى، فليقبلوا شهادة الله تعالى على طهارته، وإن كانوا من أتباع إبليس وجنوده، فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، ولعلّهم يقولون: كُنّا في أوّل الأمر تلامذة إبليس، إلى أن تخرَّجنا عليه، فزدنا عليه في السفاهة، كما قال الخوارزميّ:

وكنتُ امرأً من جُند إبليسَ فارتقى بي الدَّهرُ حتّى صار إبليسُ من جُندي

فلو ماتَ قبلي كُنتُ أُحسِنُ بعدَه طـرائـــقَ فِســـــقٍ ليـــس يُـحسِـــنُها بــَعـــدي

فثبت بهذه الدلائل أنّ يوسف u بريء عمَّا يقوله هؤلاء الجُهّال))([15]).

وقال محمّد أبو شهبة: ((فكيف تتّفق كلّ هذه الشهادات الناصعة الصادقة، وتلك الروايات المزوّرة؟!! وقد ذكر الكثير من هذه الروايات ابن جرير الطبريّ، والثعلبيّ، والبغويّ، وابن كثير، والسيوطيّ، وقد مرّ بها ابنُ كثير بعد أن نقلها حاكيًا، من غير أن ينبِّه إلى زيفها، وهو الناقد البصير!! ومن العجيب حقًّا: أنّ الإمام ابن جرير على جلالة قدره يحاول أن يضعِّف في تفسيره مذهب الخلف الذين ينفون هذا الزور والبهتان، ويفسِّرون الآيات على حسب ما تقتضيه اللغة، وقواعد الشرع، وما جاء في القرآن والسنّة الصحيحة الثابتة، ويَعتبر هذا المرويّات التي سُقْتُ لك زروًا منها آنفًا، هي: قول جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين يُؤخَذ عنهم!!! وكذلك تابعه على مقالته تلك الثعلبيّ والبغويّ في تفسيريهما!! وهذا المرويّات الغثّة المكذوبة التي يأباها النظم الكريم، ويجزم العقل والنقل باستحالتها على الأنبياء ﻹ هي التي اعتبرها الطبريّ ومن تبعه أقوال السلف!! بل يسير في خطّ اعتبار هذا المرويّات، فيورد على نفسه سؤالًا فيقول: فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يُوصف يوسف بمثل هذا وهو لله نبيّ؟! ثمّ أجاب بما لا طائل تحته، ولا يليق بمقام الأنبياء، قاله الواحدي في تفسيره: "البسيط". وأعجب من ذلك: ما ذهب إليه الواحديّ في: "البسيط" قال: قال المفسّرون الموثوق بعلمهم، المرجوع إلى روايتهم، الآخذون للتأويل، عمّن شاهدوا التنزيل: هَمَّ يوسف عليه السلام بهذه المرأة هَـمًّا صحيحًا، وجلس منها مجلس الرجل من المرأة، فلمّا رأى البرهان من ربّه زالت كلّ شهوة منه. وهي غفلة شديدة من هؤلاء الأئمّة لا نرضاها، ولولا أنّي أنزّه لساني وقلمي عن الهجر من القول، وأنّهم خلطوا في مؤلّفاتهم عملًا صالحًا وآخر سيّئًا، لقسوت عليهم، وحُقّ لي هذا، لكنّي أسأل الله لي ولهم العفو والمغفرة. وهذه الأقوال التي أسرف في ذكرها هؤلاء المفسّرون: إمّا إسرائيليّات وخُرافات وضعها زنادقة أهل الكتاب القدماء، الذي([16]) أرادوا بها النيل من الأنبياء والمرسلين، ثمّ حملها معهم أهل الكتاب الذين أسلموا وتلقّاها عنهم بعض الصحابة، والتابعين، بحسن نيّة، أو اعتمادًا على ظهور كذبها وزيفها. وإمّا أن تكون مدسوسة على هؤلاء الأئمّة، دسّها عليهم أعداء الأديان، كي تروج تحت هذا الستار، وبذلك يصلون إلى ما يريدون من إفساد العقائد، وتعكير صفو الثقافة الإسلاميّة الأصيلة الصحيحة، وهذا ما أميل إليه!))([17]).

فألف رواية ورواية، من أمثال هذه الروايات الأثيمة، لا يمكن أن تغيّر الحقيقة الثابتة القاطعة، وهي أنّ الوحي المنزل دون ما سواه، هو المصدر الوحيد للصورة الإسلاميّة الأصيلة، وكلّ ما خالفه، فهو باطلٌ، لا ريب في بطلانه، والإسلام بريء منه، كلَّ البراءة.

إنّ مثَل الإسرائيليّات المبثوثة في مؤلّفات المؤلِّفين المنسوبين إلى (الإسلام)، كمثَل كُتُب مأروضة (مصابة بالأرَضة)، يـحشـرها بعض الحاسدين، بين كُتُب نفيسة، في مكتبة قيّمة، فتتكاثر الأرضة، حتّى تستفحل؛ فإن لـم يُسارع أصحابُ الكُتُب النفيسة، إلى تنقية كُتُبهم من تلك الآفة، فإنّ الأرضة ستجعلها رُفاتًا.

فهل من الحقّ والعدل أن يدَّعي أولئك الحاسدون أنّ الكتب النفيسة، كانت مأروضة من أوّل تدوينها، وأنّ الأرضة أصيلة فيها، لـم تنتقل إليها من كتب أخرى؟!