albasher_2010
2013/04/21, 04:58 PM
واصل الباحث في التاريخ والتراث احمد بن محارب الظفيري سلسلة حلقاته عن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر.. واليوم يقدم قراءة شخصية «جمال» من خلال الصور.
يقول الظفيري من ملاحظة وتأمل هذه الصور نستنتج ان مصر في ذلك الزمان ايام الحكم الملكي كانت مزدهرة ومتقدمة «جمال» واشقاؤه الثلاثة «الليثي وعز العرب وشوقي» ووالد جمال «عبدالناصر» وعم جمال «خليل» الجميع ملابسهم ممتازة وفاخرة.
ونحن نعرف ان «عبدالناصر» وشقيقه «خليل» درسا وتعلما عند كتاب «مدرسة بسيطة» قرية بني مرو الكتّاب انشأه والدهم «حسين» فهو شيخ عرب بني مرة ورئيس القرية ثم انتقل «عبدالناصر» وكذلك شقيقه «خليل» الى مدينة اسيوط، ودرسا دراسة نظامية في مدرسة الارسالية المسيحية وتخرجا منها، ونزعا ملابسهم القروية ولبسا الملابس الاوروبية والطربوش العثماني. وتوظف «عبدالناصر» في البريد «البوستة» أما «خليل» فتوظف في وزارة الاوقاف برتبة كاتب، وتدرج فصار باش كاتب، ومعاشهما في ذلك الزمان لا يتعدى 10 جنيهات، ومن الصورة نستشف ان حالتهم المادية وظروفهم المعاشية جيدة، فهل عندهم مورد مالي آخر؟ الجواب نعم... عندهم مزارع في قريتهم المسماة «قرية بني مر» يزرع فيها الحبوب كالقمح والذرة والاشجار المثمرة بانواع الفواكه وفي هذه المزارع تربى الحيوانات ومن هذه المزارع يأتي الى«الحاج عبدالناصر» وشقيقه «الحاج خليل» عائدا ماليا يساعدهم ويجعلهم في معيشة جيدة مع اسرهم ولا ننسى ان ظروف ذلك الزمان ومصاريف الحياة كانت رخيصة وسهلة ويجب ان نتذكر ان والدهما «الحاج حسين بن خليل بن سلطان بن رمضان المري» هو من كبار قرية بني مره، ومن شيوخ آل مرة المعدودين.
ونحن نعرف ان «الحاج خليل» الموظف بوزارة الاوقاف عقيم لا ينجب، والأولاد الثلاثة «الليثي وعز العرب وشوقي» وشقيقهم «جمال» جميعهم ابناء «عبدالناصر». وشقيقهم الاكبر جمال عاش وتربى في بيت عمه العقيم «خليل» وكانت زوجة عمه هي امه الثانية بعد وفاة امه «فهيمة بنت محمد بن حماد» ان الحاجة زوجة عمه خليل هي ام جمال الحنون العطوف تسهر الليالي بجانبه اذا مرض وتشتري له كل ما يطلبه من حاجات المدرسة وتفرح لفرحة واذا نجح في صفه الدراسي تشتري له الحلوى والهدايا.
ونستشف من الصورة اهتمام عبدالناصر وشقيقه بتربية الاولاد وتوجيههم للمدرسة ومراحل التعليم حتى الجامعة، وهذا بسبب المعرفة والعلوم التي اكتسباها من دراستهم في مدرسة الارسالية المسيحية بأسيوط.
احترام زوجة والده
تزوج والد جمال «عبدالناصر» امرأة من أهل السويس اسمها «عنايات بنت مصطفى الصحن» في عام 1932م تعرف على أهلها عندما كان مبتعثا فترة من الوقت ليعمل مأمورا في بريد السويس، وكانت زوجته الاولى «أم جمال» واسمها «فهيمة بنت محمد بن حماد» قد توفيت بسبب المرض سنة 1926م وبقي عبدالناصر قرابة 5 سنوات معرضا عن الزواج وزاهدا به عائشا على ذكرى زوجته الحبيبة الوفية «فهيمة الحماد» أم جمال وكان جمال يدرس في المرحلة الثانوية والمراحل التي قبلها في القاهرة عند عمه «خليل بن حسين بن خليل بن سلطان بن رمضان المري» الذي يشتغل كاتبا في وزارة الاوقاف وبيته يقع في «حي النحاسين» القريب من احياء الموسكي والغورية ومسجد الامام الحسين واسواق العطارين واصحاب الحرف والصاغة والصناع، في هذه الاحياء الشعبية والاماكن القديمة من القاهرة عاش الشاب «جمال عبدالناصر» القروي القادم من «قرية بني مر» ، وعرف عن قرب حياة الناس البسطاء الكادحين الذين يتعبون ويعرقون من اجل لقمة العيش وبعد ان تزوج والده طلب جمال من عمه خليل ومن زوجة عمه الحبيبة الى قلبه، ان يسمحا له بالانتقال الى بيت والده في الاسكندرية، وفعلا انتقل عند والده في الاسكندرية في سنة 1932م والتحق بمدرسة «راس التين» الثانوية.
ولكن الشاب جمال لم يرتح من زوجة والده «عنايات بنت مصطفى الصحن» فمعاملتها له ولأشقائه «الليثي وعز العرب وشوقي» فيها خشونة وشدة، وكان جمال يكظم غيظه في صدره ولا يبديه لزوجة ابيه، ويعاملها باحترام وتقدير لئلا يزعل والده عليه وعرف جمال بحبه لوالده والتفاني في طاعته وخدمته.
وعندما كان جمال طالبا في الكلية الحربية، جاء كعادته في يوم العطلة لزيارة بيت والده ورؤية والده واشقاءه، ولما وصل إلى البيت تفاجأ برؤية اخاه الصغير «شوقي» منزويا تحت سلم الشقة ويبكي بحرقة، فاحتضنه وهو مازال يبكي، فسأل أخاه عن سبب بكائه وانزوائه تحت السلم فقال له إن «نينه» ويقصد زوجة أبيه، تجبرني على حمل صفيحة الزبالة كل يوم والذهاب بها الى الشارع، فأخذ زملائي يعيروني بهذا العمل فاندفع جمال وهو حاملا شقيقه شوقي الصغير وكلم زوجة والده «عنايات الصحن» بشده مؤنبا اياها على معاملتها السيئة لشقيقه الصغير شوقي وخرج من البيت وراح الى بيت امه من الرضاعة «وهيبة النشار» لأن بيتها مجاور لبيت والده، وشرح لأمه وهيبة سبب زعله وخروجه من بيت والده، فكلمت وهيبة الحاج عبدالناصر «والد جمال» بالموضوع واصلحت الامر بين جمال وزوجة أبيه.
زواج جمال
ذكرنا في كلام سابق ان الشاب «جمال» لما تخرج من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان، خفق قلبه بالحب لأول مرة، حيث احب شابة عربية مصرية من اصل صعيدي تقطن عائلتها القاهرة، وهي بادلته الحب، وتمنت ان يكون هذا الشاب الضابط الاسمر شريك حياتها ووالد عيالها، ولكن الاقدار لا يصنعها البشر، حيث رفضت اسرة الفتاة تزويجها، لأن اختها الكبيرة لم تتزوج بعد والاعراف والتقاليد تمنع زواج البنت الصغرى قبل زواج اختها الكبرى ومرت السنون وتزوجت الفتاة وتزوج جمال ولم ير اي منهما الآخر وفي آخر ايام الرئيس جمال عبدالناصر، قرأ خبر وفاة هذه الفتاة «خطيبته الاولى» في جريدة الاهرام، فخرج من مقر رئاسة الجمهورية متخفيا لا يعلم به احد يسوق السيارة لوحدة، فشيع جثمانها بعيون باكية وهو واقف بسيارته ومن مفارقات القدر الغريبة ان الرئيس جمال عبدالناصر مات بعد رحيل تلك السيدة الكريمة بثلاثة شهور وللمزيد ارجع لمقالنا السابق.
ويقول عربان الجزيرة في امثالهم الدارجة : «المزوج بالسماء» ويقصدون الله تعالى: وفي سنة 1944م كان «جمال» برتبة يوز باشي «نقيب» تعرف على شخص مصري من اصل ايراني اسمه «عبدالحميد محمود كاظم» كانت اسرته تملك مصنعا للسجاد في القاهرة، وكان عم جمال «خليل بن حسين» صديقا لعبد الحميد ووالده محمود كاظم وفي احدى المرات زار جمال برفقة عمه خليل منزل محمود كاظم فشاهد ابنته «تحية» فكلم جمال شقيق الفتاة عبدالحميد حول طلب يد اخته لتصبح زوجة له فوافق شقيق الفتاة ووالدها على الزواج وتم زواج البوزباشي «النقيب» جمال عبدالناصر من الفتاة الفاضلة «تحية محمود كاظم» في 29 يونيو عام 194l وانجبت له من الأبناء «خالد» و«عبدالحميد» و«عبدالحكيم» ومن البنات «هدى» و«منى».
أخلاق جمال.. أخلاق القرية العربية المصرية
كل من كتب عن الرئيس جمال عبدالناصر بعد وفاته وصفه بأنه عفيف اليد نزيه الذمة ولم يعرف عنه منذ شبابه الى ان اصبح رئيسا للدولة المصرية علاقات غرامية او نزوات نسائية، ولكنه عُرف بالاخلاق العربية الكريمة وكان وفيا غاية الوفاء لزوجته ام عياله «السيدة تحية محمود كاظم» ولأسرته ومهتما غاية الاهتمام في تربية اولاده على النهج العربي الاسلامي ومحافظا على اخلاق القرية المصرية التي جاء منها «قرية عرب بني مرة» توفيت والدته «فهيمة بنت محمد بن حماد» وعمره 6 سنوات، وسمع من والده واعمامه ان مصاغ «ذهب» والدته اخذه شقيقها «ابراهيم بن محمد بن حماد» وقال لهم: سأحتفظ بمصاغ اختي الى ابنها «جمال» حتى يكبر، ولما كبر جمال وتخرج من الكلية الحربية راح الى خاله ابراهيم وطلب منه مصاغ امه فأنكر خاله ذلك وقال لجمال ليس لك عندي شيء وعرض خاله بعد مدة ابنته على جمال ليتزوجها، فرفض جمال ذلك.
قصة إنسانية حقيقية
هذه الحادثة الانسانية التي هزت ضمير «جمال عبدالناصر» حصلت في أيام الوحدة بين مصر وسوريا «تمت الوحدة سنة 1958 وحدث الانفصال سنة 1962م، في تلك الايام وفي بدايات دولة الوحدة التي سميت بـ«الجمهورية العربية المتحدة» وتتكون من مصر «الإقليم الجنوبي» وسوريا «الاقليم الشمالي» وكان رئيس الجمهورية العربية المتحدة هو «جمال عبدالناصر» وكانت الاجتماعات متوالية في قصر رئاسة الجمهورية وكانت شخصية جمال طاغية وموثرة بقوة على كل رجال دولته، لا بل مؤثرة في زعماء العرب والعالم عموما كان قائدا مهيب الطلعة مؤثرا في نظراته وخطاباته وحركاته على كل من حوله وعلى الجماهير عموما فهو الزعيم العربي المنادي بوحدة العرب والمناصر لكل حركات التحرر في العالم والمحارب للاستعمار.. في تلك الايام وخلال احد الاجتماعات مع وزرائه ورجال دولته يأتي إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» خبر يهز كيانه ويجعل الدنيا تدور في رأسه، فيأمر بانهاء الاجتماع ويتوجه لاقرب كرسي ليجلس عليه لانه لايستطيع الوقوف، شبك يديه على رأسه وبدأت الدموع تنهمر من عينيه كالمطر، وسرح بخياله، وبدأ شريط الذكريات في رأسه يتحرك واخذت صور الطفولة تترأى له امام ناظريه، كيف لم يتذكر امه الحبيبة التي ربته وهو صغير وغمرته بحبها وحنانها وكانت تسمى «الحاجة أم جمال» وهي زوجة عمه «الحاج خليل بن حسين» لقد عوضته عن أمه التي ماتت وجمال لم يكمل عامه السابع، لقد كان عمه الحاج خليل عقيم لاينجب، ولما جاء جمال إلى بيت عمه خليل، فرحت بمقدمه الحاجة زوجة عمه «وهي مرية من بني مرة» وكانت تنظر للطفل جمال بأنه هدية السماء لها، فهو الابن الذي وهبه الله لها ليعوضها عن فقدان الولد ووجد الطفل جمال كل الحنان والحب والرعاية من زوجة عمه «الحاجة أم جمال» وكان يناديها جمال منذ الطفولة وحتى عندما كبر وصار رئيسا للجمهورية.. يناديها «يا أمي أو ياماما» ومازال جمال يتذكر تلك الساعات الحرجة والايام الخطرة عندما اصيب بمرض «التيفوئيد» فارتفعت حرارة جسمه واصبح بين الموت والحياة فحملته زوجة عمه «الحاجة أم جمال» وطارت بطفلها جمال إلى عيادات الاطباء والمستشفيات وكانت تبكي عليه بحرقة وصرفت كل ما تملكه من نقود على علاجه، وفرشت له الفراش على الارض ونامت بجانبه تتابعه لحظة بلحظة، تصلي بجانبه وتدعو الله ان يشفيه من المرض، واستمرت على هذه الحالة لمدة شهرين وهي تراجع الاطباء وترفع اكفها إلى السماء متضرعة خاشعة إلى رب العزة والجلال لينقذ طفلها من مرض التيفوئيد وشبح الموت الزاحف إلى جسمه النحيف، فتحققت امنية «الحاجة أم جمال» وبرأ وتشافى ابنها ورجعت له صحته وعافيته مازال الرئيس «جمال عبدالناصر» يتذكر ايام المر ومعاناته وسهر الليالي ومعانات والدته، وكانت تضمه إلى صدرها وتنومه بحضنها وهي تبكي الليل مع النهار، ترعاه وتمرضه وتنظفه، حتى جاءت معجزة الشفاء من المرض، فقدر الله تعالى له عمر ثان وانقذه من الموت.
ويذكر يوم تخرجه في 17 يوليو من عام 1938م من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان، وكيف استقبلته الحاجة زوجة عمه خليل بالزغاريد والحلوى والورود وعملت في بيتها حفلة فرح دعت اليها صويحباتها من جيرانها وقريباتها وبنات الاقارب، وكانت حفلة فرح وبهجة ومأدبة سعادة وحبور بمناسبة تخرج ولدها جمال ضابطا في جيش مصر المحروسة «كنانة الله في أرضه».
والآن لنرجع إلى الخبر المحزن الذي جعل الرئيس جمال عبدالناصر يترك اعماله ويؤجل اجتماعاته ويجعل الدنيا تدور في رأسه.. الخبر هو ان امه العجوز الحاجة زوجة عمه خليل بن حسين بن خليل، طريحة الفراش مريضة منذ اكثر من شهر بسبب ان زوجها خليل «عم جمال» تزوج عليها زوجة ثانية منذ فترة طويلة وكتم سر زواجه عنها ولم يخبرها بذلك ولما علمت بالخبر تألمت كثيرا ولم تنقطع دموعها ليل نهار من الجريان واكثر ما آلمها وأصابها بالحرقة والكمد اخفاء زوجها خبر الزواج اهكذا يكون جزاء الوفاء والعشرة الطويلة مع خليل!
نهض الرئيس جمال عبدالناصر من صدمته النفسية وامر بأن تتوجه سيارتان إلى الاسكندرية إلى بيت عمه خليل ويحضروا زوجة عمه الأولى «أم جمال» ولايعودوا إلا وهي معهم ثم يتجهوا بها مباشرة إلى منزله بمنشية البكري بالقاهرة، وعلى الفور تحركت السيارتان من رئاسة الجمهورية إلى الاسكندرية وقطع الرئيس يومه عائدا إلى منزله في منشية البكري لاستقبال والدته «زوجة عمه».
واصدر الرئيس امرا إلى الحرس وبدالة تلفونات الرئاسة بعدم السماح لعمه بالدخول عليه وعدم استقبال اي تلفون منه حتى اشعار آخر.
وصلت السيارة التي تقل الحاجة أم جمال «زوجة عمه خليل» وأدخلوها إلى البيت وهي عجوز منهكة مريضة، فاستقبلها ولدها الرئيس جمال عبدالناصر وهو يبكي فضمها على صدره مرددا «يا أمي يا أمي» واجلسها على المرتبة وقبل يديها ورأسها وتقدمت زوجة الرئيس «تحية محمود كاظم» واولاد الرئيس وبناته وقبلوا رأس الحاجة ويديها ووقف الرئيس مخاطبا زوجته واولاده قائلا لهم: «هذه أمي، هي أم البيت، وكلكم خدم لها، طلباتها فوق الراس والعين» وامر باحضار الطبيب لمعالجتها ومتابعة حالتها الصحية وبقيت الحاجة مدة من الوقت في بيت ولدها الرئيس، ثم اصلح بينها وبين زوجها وتعهد برعايتها والاتصال بها وتنفيذ كل طلباتها والسهر على راحتها وخدمتها طيلة حياتها وحياته.
يقول الظفيري من ملاحظة وتأمل هذه الصور نستنتج ان مصر في ذلك الزمان ايام الحكم الملكي كانت مزدهرة ومتقدمة «جمال» واشقاؤه الثلاثة «الليثي وعز العرب وشوقي» ووالد جمال «عبدالناصر» وعم جمال «خليل» الجميع ملابسهم ممتازة وفاخرة.
ونحن نعرف ان «عبدالناصر» وشقيقه «خليل» درسا وتعلما عند كتاب «مدرسة بسيطة» قرية بني مرو الكتّاب انشأه والدهم «حسين» فهو شيخ عرب بني مرة ورئيس القرية ثم انتقل «عبدالناصر» وكذلك شقيقه «خليل» الى مدينة اسيوط، ودرسا دراسة نظامية في مدرسة الارسالية المسيحية وتخرجا منها، ونزعا ملابسهم القروية ولبسا الملابس الاوروبية والطربوش العثماني. وتوظف «عبدالناصر» في البريد «البوستة» أما «خليل» فتوظف في وزارة الاوقاف برتبة كاتب، وتدرج فصار باش كاتب، ومعاشهما في ذلك الزمان لا يتعدى 10 جنيهات، ومن الصورة نستشف ان حالتهم المادية وظروفهم المعاشية جيدة، فهل عندهم مورد مالي آخر؟ الجواب نعم... عندهم مزارع في قريتهم المسماة «قرية بني مر» يزرع فيها الحبوب كالقمح والذرة والاشجار المثمرة بانواع الفواكه وفي هذه المزارع تربى الحيوانات ومن هذه المزارع يأتي الى«الحاج عبدالناصر» وشقيقه «الحاج خليل» عائدا ماليا يساعدهم ويجعلهم في معيشة جيدة مع اسرهم ولا ننسى ان ظروف ذلك الزمان ومصاريف الحياة كانت رخيصة وسهلة ويجب ان نتذكر ان والدهما «الحاج حسين بن خليل بن سلطان بن رمضان المري» هو من كبار قرية بني مره، ومن شيوخ آل مرة المعدودين.
ونحن نعرف ان «الحاج خليل» الموظف بوزارة الاوقاف عقيم لا ينجب، والأولاد الثلاثة «الليثي وعز العرب وشوقي» وشقيقهم «جمال» جميعهم ابناء «عبدالناصر». وشقيقهم الاكبر جمال عاش وتربى في بيت عمه العقيم «خليل» وكانت زوجة عمه هي امه الثانية بعد وفاة امه «فهيمة بنت محمد بن حماد» ان الحاجة زوجة عمه خليل هي ام جمال الحنون العطوف تسهر الليالي بجانبه اذا مرض وتشتري له كل ما يطلبه من حاجات المدرسة وتفرح لفرحة واذا نجح في صفه الدراسي تشتري له الحلوى والهدايا.
ونستشف من الصورة اهتمام عبدالناصر وشقيقه بتربية الاولاد وتوجيههم للمدرسة ومراحل التعليم حتى الجامعة، وهذا بسبب المعرفة والعلوم التي اكتسباها من دراستهم في مدرسة الارسالية المسيحية بأسيوط.
احترام زوجة والده
تزوج والد جمال «عبدالناصر» امرأة من أهل السويس اسمها «عنايات بنت مصطفى الصحن» في عام 1932م تعرف على أهلها عندما كان مبتعثا فترة من الوقت ليعمل مأمورا في بريد السويس، وكانت زوجته الاولى «أم جمال» واسمها «فهيمة بنت محمد بن حماد» قد توفيت بسبب المرض سنة 1926م وبقي عبدالناصر قرابة 5 سنوات معرضا عن الزواج وزاهدا به عائشا على ذكرى زوجته الحبيبة الوفية «فهيمة الحماد» أم جمال وكان جمال يدرس في المرحلة الثانوية والمراحل التي قبلها في القاهرة عند عمه «خليل بن حسين بن خليل بن سلطان بن رمضان المري» الذي يشتغل كاتبا في وزارة الاوقاف وبيته يقع في «حي النحاسين» القريب من احياء الموسكي والغورية ومسجد الامام الحسين واسواق العطارين واصحاب الحرف والصاغة والصناع، في هذه الاحياء الشعبية والاماكن القديمة من القاهرة عاش الشاب «جمال عبدالناصر» القروي القادم من «قرية بني مر» ، وعرف عن قرب حياة الناس البسطاء الكادحين الذين يتعبون ويعرقون من اجل لقمة العيش وبعد ان تزوج والده طلب جمال من عمه خليل ومن زوجة عمه الحبيبة الى قلبه، ان يسمحا له بالانتقال الى بيت والده في الاسكندرية، وفعلا انتقل عند والده في الاسكندرية في سنة 1932م والتحق بمدرسة «راس التين» الثانوية.
ولكن الشاب جمال لم يرتح من زوجة والده «عنايات بنت مصطفى الصحن» فمعاملتها له ولأشقائه «الليثي وعز العرب وشوقي» فيها خشونة وشدة، وكان جمال يكظم غيظه في صدره ولا يبديه لزوجة ابيه، ويعاملها باحترام وتقدير لئلا يزعل والده عليه وعرف جمال بحبه لوالده والتفاني في طاعته وخدمته.
وعندما كان جمال طالبا في الكلية الحربية، جاء كعادته في يوم العطلة لزيارة بيت والده ورؤية والده واشقاءه، ولما وصل إلى البيت تفاجأ برؤية اخاه الصغير «شوقي» منزويا تحت سلم الشقة ويبكي بحرقة، فاحتضنه وهو مازال يبكي، فسأل أخاه عن سبب بكائه وانزوائه تحت السلم فقال له إن «نينه» ويقصد زوجة أبيه، تجبرني على حمل صفيحة الزبالة كل يوم والذهاب بها الى الشارع، فأخذ زملائي يعيروني بهذا العمل فاندفع جمال وهو حاملا شقيقه شوقي الصغير وكلم زوجة والده «عنايات الصحن» بشده مؤنبا اياها على معاملتها السيئة لشقيقه الصغير شوقي وخرج من البيت وراح الى بيت امه من الرضاعة «وهيبة النشار» لأن بيتها مجاور لبيت والده، وشرح لأمه وهيبة سبب زعله وخروجه من بيت والده، فكلمت وهيبة الحاج عبدالناصر «والد جمال» بالموضوع واصلحت الامر بين جمال وزوجة أبيه.
زواج جمال
ذكرنا في كلام سابق ان الشاب «جمال» لما تخرج من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان، خفق قلبه بالحب لأول مرة، حيث احب شابة عربية مصرية من اصل صعيدي تقطن عائلتها القاهرة، وهي بادلته الحب، وتمنت ان يكون هذا الشاب الضابط الاسمر شريك حياتها ووالد عيالها، ولكن الاقدار لا يصنعها البشر، حيث رفضت اسرة الفتاة تزويجها، لأن اختها الكبيرة لم تتزوج بعد والاعراف والتقاليد تمنع زواج البنت الصغرى قبل زواج اختها الكبرى ومرت السنون وتزوجت الفتاة وتزوج جمال ولم ير اي منهما الآخر وفي آخر ايام الرئيس جمال عبدالناصر، قرأ خبر وفاة هذه الفتاة «خطيبته الاولى» في جريدة الاهرام، فخرج من مقر رئاسة الجمهورية متخفيا لا يعلم به احد يسوق السيارة لوحدة، فشيع جثمانها بعيون باكية وهو واقف بسيارته ومن مفارقات القدر الغريبة ان الرئيس جمال عبدالناصر مات بعد رحيل تلك السيدة الكريمة بثلاثة شهور وللمزيد ارجع لمقالنا السابق.
ويقول عربان الجزيرة في امثالهم الدارجة : «المزوج بالسماء» ويقصدون الله تعالى: وفي سنة 1944م كان «جمال» برتبة يوز باشي «نقيب» تعرف على شخص مصري من اصل ايراني اسمه «عبدالحميد محمود كاظم» كانت اسرته تملك مصنعا للسجاد في القاهرة، وكان عم جمال «خليل بن حسين» صديقا لعبد الحميد ووالده محمود كاظم وفي احدى المرات زار جمال برفقة عمه خليل منزل محمود كاظم فشاهد ابنته «تحية» فكلم جمال شقيق الفتاة عبدالحميد حول طلب يد اخته لتصبح زوجة له فوافق شقيق الفتاة ووالدها على الزواج وتم زواج البوزباشي «النقيب» جمال عبدالناصر من الفتاة الفاضلة «تحية محمود كاظم» في 29 يونيو عام 194l وانجبت له من الأبناء «خالد» و«عبدالحميد» و«عبدالحكيم» ومن البنات «هدى» و«منى».
أخلاق جمال.. أخلاق القرية العربية المصرية
كل من كتب عن الرئيس جمال عبدالناصر بعد وفاته وصفه بأنه عفيف اليد نزيه الذمة ولم يعرف عنه منذ شبابه الى ان اصبح رئيسا للدولة المصرية علاقات غرامية او نزوات نسائية، ولكنه عُرف بالاخلاق العربية الكريمة وكان وفيا غاية الوفاء لزوجته ام عياله «السيدة تحية محمود كاظم» ولأسرته ومهتما غاية الاهتمام في تربية اولاده على النهج العربي الاسلامي ومحافظا على اخلاق القرية المصرية التي جاء منها «قرية عرب بني مرة» توفيت والدته «فهيمة بنت محمد بن حماد» وعمره 6 سنوات، وسمع من والده واعمامه ان مصاغ «ذهب» والدته اخذه شقيقها «ابراهيم بن محمد بن حماد» وقال لهم: سأحتفظ بمصاغ اختي الى ابنها «جمال» حتى يكبر، ولما كبر جمال وتخرج من الكلية الحربية راح الى خاله ابراهيم وطلب منه مصاغ امه فأنكر خاله ذلك وقال لجمال ليس لك عندي شيء وعرض خاله بعد مدة ابنته على جمال ليتزوجها، فرفض جمال ذلك.
قصة إنسانية حقيقية
هذه الحادثة الانسانية التي هزت ضمير «جمال عبدالناصر» حصلت في أيام الوحدة بين مصر وسوريا «تمت الوحدة سنة 1958 وحدث الانفصال سنة 1962م، في تلك الايام وفي بدايات دولة الوحدة التي سميت بـ«الجمهورية العربية المتحدة» وتتكون من مصر «الإقليم الجنوبي» وسوريا «الاقليم الشمالي» وكان رئيس الجمهورية العربية المتحدة هو «جمال عبدالناصر» وكانت الاجتماعات متوالية في قصر رئاسة الجمهورية وكانت شخصية جمال طاغية وموثرة بقوة على كل رجال دولته، لا بل مؤثرة في زعماء العرب والعالم عموما كان قائدا مهيب الطلعة مؤثرا في نظراته وخطاباته وحركاته على كل من حوله وعلى الجماهير عموما فهو الزعيم العربي المنادي بوحدة العرب والمناصر لكل حركات التحرر في العالم والمحارب للاستعمار.. في تلك الايام وخلال احد الاجتماعات مع وزرائه ورجال دولته يأتي إلى الرئيس «جمال عبدالناصر» خبر يهز كيانه ويجعل الدنيا تدور في رأسه، فيأمر بانهاء الاجتماع ويتوجه لاقرب كرسي ليجلس عليه لانه لايستطيع الوقوف، شبك يديه على رأسه وبدأت الدموع تنهمر من عينيه كالمطر، وسرح بخياله، وبدأ شريط الذكريات في رأسه يتحرك واخذت صور الطفولة تترأى له امام ناظريه، كيف لم يتذكر امه الحبيبة التي ربته وهو صغير وغمرته بحبها وحنانها وكانت تسمى «الحاجة أم جمال» وهي زوجة عمه «الحاج خليل بن حسين» لقد عوضته عن أمه التي ماتت وجمال لم يكمل عامه السابع، لقد كان عمه الحاج خليل عقيم لاينجب، ولما جاء جمال إلى بيت عمه خليل، فرحت بمقدمه الحاجة زوجة عمه «وهي مرية من بني مرة» وكانت تنظر للطفل جمال بأنه هدية السماء لها، فهو الابن الذي وهبه الله لها ليعوضها عن فقدان الولد ووجد الطفل جمال كل الحنان والحب والرعاية من زوجة عمه «الحاجة أم جمال» وكان يناديها جمال منذ الطفولة وحتى عندما كبر وصار رئيسا للجمهورية.. يناديها «يا أمي أو ياماما» ومازال جمال يتذكر تلك الساعات الحرجة والايام الخطرة عندما اصيب بمرض «التيفوئيد» فارتفعت حرارة جسمه واصبح بين الموت والحياة فحملته زوجة عمه «الحاجة أم جمال» وطارت بطفلها جمال إلى عيادات الاطباء والمستشفيات وكانت تبكي عليه بحرقة وصرفت كل ما تملكه من نقود على علاجه، وفرشت له الفراش على الارض ونامت بجانبه تتابعه لحظة بلحظة، تصلي بجانبه وتدعو الله ان يشفيه من المرض، واستمرت على هذه الحالة لمدة شهرين وهي تراجع الاطباء وترفع اكفها إلى السماء متضرعة خاشعة إلى رب العزة والجلال لينقذ طفلها من مرض التيفوئيد وشبح الموت الزاحف إلى جسمه النحيف، فتحققت امنية «الحاجة أم جمال» وبرأ وتشافى ابنها ورجعت له صحته وعافيته مازال الرئيس «جمال عبدالناصر» يتذكر ايام المر ومعاناته وسهر الليالي ومعانات والدته، وكانت تضمه إلى صدرها وتنومه بحضنها وهي تبكي الليل مع النهار، ترعاه وتمرضه وتنظفه، حتى جاءت معجزة الشفاء من المرض، فقدر الله تعالى له عمر ثان وانقذه من الموت.
ويذكر يوم تخرجه في 17 يوليو من عام 1938م من الكلية الحربية برتبة ملازم ثان، وكيف استقبلته الحاجة زوجة عمه خليل بالزغاريد والحلوى والورود وعملت في بيتها حفلة فرح دعت اليها صويحباتها من جيرانها وقريباتها وبنات الاقارب، وكانت حفلة فرح وبهجة ومأدبة سعادة وحبور بمناسبة تخرج ولدها جمال ضابطا في جيش مصر المحروسة «كنانة الله في أرضه».
والآن لنرجع إلى الخبر المحزن الذي جعل الرئيس جمال عبدالناصر يترك اعماله ويؤجل اجتماعاته ويجعل الدنيا تدور في رأسه.. الخبر هو ان امه العجوز الحاجة زوجة عمه خليل بن حسين بن خليل، طريحة الفراش مريضة منذ اكثر من شهر بسبب ان زوجها خليل «عم جمال» تزوج عليها زوجة ثانية منذ فترة طويلة وكتم سر زواجه عنها ولم يخبرها بذلك ولما علمت بالخبر تألمت كثيرا ولم تنقطع دموعها ليل نهار من الجريان واكثر ما آلمها وأصابها بالحرقة والكمد اخفاء زوجها خبر الزواج اهكذا يكون جزاء الوفاء والعشرة الطويلة مع خليل!
نهض الرئيس جمال عبدالناصر من صدمته النفسية وامر بأن تتوجه سيارتان إلى الاسكندرية إلى بيت عمه خليل ويحضروا زوجة عمه الأولى «أم جمال» ولايعودوا إلا وهي معهم ثم يتجهوا بها مباشرة إلى منزله بمنشية البكري بالقاهرة، وعلى الفور تحركت السيارتان من رئاسة الجمهورية إلى الاسكندرية وقطع الرئيس يومه عائدا إلى منزله في منشية البكري لاستقبال والدته «زوجة عمه».
واصدر الرئيس امرا إلى الحرس وبدالة تلفونات الرئاسة بعدم السماح لعمه بالدخول عليه وعدم استقبال اي تلفون منه حتى اشعار آخر.
وصلت السيارة التي تقل الحاجة أم جمال «زوجة عمه خليل» وأدخلوها إلى البيت وهي عجوز منهكة مريضة، فاستقبلها ولدها الرئيس جمال عبدالناصر وهو يبكي فضمها على صدره مرددا «يا أمي يا أمي» واجلسها على المرتبة وقبل يديها ورأسها وتقدمت زوجة الرئيس «تحية محمود كاظم» واولاد الرئيس وبناته وقبلوا رأس الحاجة ويديها ووقف الرئيس مخاطبا زوجته واولاده قائلا لهم: «هذه أمي، هي أم البيت، وكلكم خدم لها، طلباتها فوق الراس والعين» وامر باحضار الطبيب لمعالجتها ومتابعة حالتها الصحية وبقيت الحاجة مدة من الوقت في بيت ولدها الرئيس، ثم اصلح بينها وبين زوجها وتعهد برعايتها والاتصال بها وتنفيذ كل طلباتها والسهر على راحتها وخدمتها طيلة حياتها وحياته.