إن أجهزة التليفزيون و الإذاعة و السينما و صفحات المجلات و الجرائد تتبارى على شيء واحد خطير هو سرقة الإنسان من نفسه ، شد عينيه و أذنيه و أعصابه و أحشائه ليجلس متسمراً كالمشدوه و قد تخدرت أعصابه تماماً ، كأنه أخذ بنجاً كلياً و راح يسبح بعينيه مع المسلسلة ، و يكد ذهنه متسائلاً : من القاتل ، ومن الهارب .. و بين قاهر الجواسيس ، والأفيشات العارية في المجلات ، و العناوين الصارخة في الجرائد ينتهي اليوم و الليلة ، و يعود الواحد إلى فراشه و هو في حالة خواء و فراغ و توتر داخلي مجهول السبب ، و حزن دفين كأنه لم يعش ذلك اليوم قط ..
و الحقيقة أنه لم يعش بالفعل ، و أن حق الحياة سلب منه ، و أنه سلب من نفسه ، و أخرج عنوة و ألقي به في مغامرات عجيبة مضحكة ، و تساؤلات لا تهمه على الإطلاق .. من الذي قتل شهيرة هانم ! و لماذا تخون كلوديا كاردينالي زوجها في رواية "الذئب في فراشي" ؟ و أين الكنز في مسلسلة "عبيد الذهب" ؟ و أين الحقيقة في رواية "ارحمني يا حبيبي" ؟!
و هذه الظاهرة ظاهرة عالمية ، بل هي من سمات هذا العصر المادي الميكانيكي الذي تحولت فيه أجهزة الإعلام إلى أدوات للقتل الجماعي ..
و مسئولية كل مفكر و كاتب أن يخرج على الخط ، و يتمرد على هذا الإتفاق غير المكتوب بقتل الوقت في محاولة شريفة لإحياء وقت الناس بتثقيفهم و تعليمهم و البحث عن الحق ، لا عن التسلية و إشراك الناس في مأساة مصيرهم ، و إعادة كل واحد إلى نفسه و قد ازداد ثراء و وعياً لا سلبه من نفسه و سرقته من حياته ، و رفع شعارات الحرية لتفسح الروح الإنسانية عن مكنونها ..
■ ■ ■
د. مصطفـى محمـــود
من مقال : أفيون هذا الزمان
من كتاب الشيطان يحكم