مليون مبروك قسم الشعر والخواطر
احب ان اساهم بقصه حدثت ابان سقوط الاندلس
وهى للعبره
واعتذر عن العنوان فهو كذلك بالموسوعه
اقتحموا بيت ابن الغافل مع اقتحام المدينة. كان متأهبا، خبأ كل شيء ولم يعد هناك ما يدل على هويته. التف الجنود حوله وحاصروه برماحهم. وجوه غاضبة ولحى حمراء تتوهج وسط العتمة. كانت أسنة الرماح على وشك أن تنغرس في لحمه. تقدم أحد القساوسة وحدق فيه باشمئزاز قائلاً:
- أنت مسلم .. أليس كذلك..؟
قال ابن الغافل: أجل، ولكن جدي الأول كان مسيحيا طيبا، ولابد أن جدي الثاني كان كذلك، ولا أعرف شيئا عن جدي الثالث.
انفرجت أسارير الراهب عن ابتسامة متشككة وقال:
فماذا أنت في أعماق قلبك؟
قال ابن الغافل: إنني لا أؤمن بشيء، ولكن ربما استيقظت داخلي خلايا الإيمان التي ورثتها عن أجدادي.
ظل القس ينظر إليه غير مصدق، ثم أشار له أن يتبعهم فتبعهم. ضوء الشمس قوي والهواء راكد والمدينة عفنة كأن بيوتها قد امتلأت بالقتلى. كان هناك من هم مثله، يتبعون الجند والقساوسة. لا بد أنهم رددوا نفس الكلمات وكذبوا ذات الكذبة. ساروا إلى ساحة المسجد الكبير وابن الغافل منكس الرأس، لايريد أن يتعرف على أحد ولا يريد لأحد أن يتعرف عليه. أوقفهم القس صفا واحداً وهو يهتف بهم:
- سوف تنتظرون قدوم نيافة الكاردينال "خمينث".
رفع ابن الغافل رأسه فرأى معاول الهدم وهى تهوي على مئذنة المسجد، ورأى عمالا آخرين يشدون حبلا يرفعون به جرساً ثقيلاً فوق قبة المسجد، وآخرين يواصلون محو الآيات المحفورة على الملاط. ثم خيم صمت مفاجئ، وخرج من باب المسجد قس آخر، بالغ الطول والنحافة يمتاز عن بقية القساوسة بعباءته الحمراء في لون الدم. سار ببطء يتبعه رتل من الرهبان. فكر ابن الغافل، لاشك أن هذا هو الكاردينال. نظراته ثاقبة كالصقر يسلطها عليهم يبحث في داخلهم عن ذلك المسيحي القديم أو المسلم المرتد.
أشار الكاردينال فاندفعت من داخل المسجد مجموعة من الجنود يحملون أكواماً من الصحاف، ذخيرة مكتبة المسجد الكبير، نسخ القرآن والأحاديث والفقه والسير. ألقوا بها على الأرض وظلوا يوالون إخراجها من المسجد حتى صنعوا منها كومة عالية، ثم تقدم الكاردينال بنفسه وتناول شعلة من أحد الجنود وأضرم النيران في الكومة. ارتجف ابن الغافل. تلوت الأوراق وتصاعدت رائحة المداد المختلطة بالزعفران وخشب الصندل. تذكر آخر صلاة للجمعة، والمصلين بملابسهم البيضاء، والصحاف مفرودة أمامهم، وهم يتمتمون بالآيات في همس خافت فيتكون من جماع هذا الهمس ما يشبه حفيف أجنحة الطيور وهى تنطلق للسموات البعيدة. ألسنة اللهب تزداد اتقاداً والدخان تحرق خلاياهم والسناج يسود وجوههم، وهم جميعاً واقفون عاجزين عن الحركة، والكاردينال يحدق فيهم أكثر مما يحدق في النار التي تبدو كأنها لن تخمد أبداً.
وأخيراً، بعد أن تحول كل شيءإلى سناج التفت الكاردينال إليهم. كانت النار قد عمدتهم وطمس السناج ملامحهم القديمة وقال:
- ستنقلون من بيوتكم القديمة إلى بيوت أفضل، بعيداً عن أحياء المسلمين القذرة. سوف نساعدكم حتى تكونوا مسيحيين طيبين.
ثم توقف أمام ابن الغافل، كأنه يحفظ ملامحه، ثم قال له في اهتمام:
- ماذا كنت تعمل من قبل؟.
كأن الكاردينال كان ينفذ داخل طويته. لم يقدر على الكذب، قال:
- كنت عين عيون الملك.
اتسعت ابتسامة الكاردينال:
- سوف أتذكر هذا بالتأكيد.
ورفع الصليب الفضي الذي كان يحمله في يده، وقربه من وجه ابن الغافل الذي أرخى عينيه حتى لا يقابل نظرات الكاردينال، ثم مد شفتيه ولمس الصليب البارد.
قال له الكاردينال:
- آن لك أن تتزوج يا ألفونس. زواجك من إسبانية نبيلة سوف يحميك من خطر الردة.
ووضع يده على رأسه يباركه فارتجف ابن الغافل. هذا هو اسمه الجديد. ومع ذلك فإن العالم مليء بالحمقى الذين لم يغيروا أسماءهم ولم يكفوا عن التمرد. صودرت بيوتهم ونقلوا إلى الأحياء الفقيرة وخطفت أولادهم ليتحولوا إلى شمامسة، وانتزعت الارض التي يملكونها والثروة التي يتاجرون فيها، ومع ذلك ظلوا يرفضون الانصياع والدخول في دين السادة الجدد. كان الكاردينال قد حرم عليهم أشياء كثيرة، حول مساجدهم إلى كنائس، وأغلق الحمامات، ومنع لبسهم للون الإليض وألغى كل بنود المعاهدة التي وقعها الملك الصغير- آخر الحمقى- مع الملكة المجيدة إيزابيلا، كان الكاردينال يبسط ظله على المدينة وابن الغافل يمشي في ظله. عبر المسافة الصغيرة من أن يكون عين الملك إلى عين الكاردينال. كانت المدينة مليئة بالكفار، والكاردينال كان صبوراً عليهم أكثر مما ينبغي. استدعى الفقهاء وأغراهم وناقشهم طويلا. حاول أن يقنعهم أن الله يقف دائما بجانب المنتصر، وما دامت المسيحية قد انتصرت فهي الحق. ولكنهم أخذوا يناقشونه ويفندون حججه، وهتف الكاردينال في حنق:
- هؤلاء الأغبياء، إنني أتمالك نفسي في صعوبة ويجب أن ألجأ معهم إلى العنف. قال ابن الغافل: فلتناقش شيخهم " الزبيري " لو اقتنع فسوف يقتنع الجميع.
كان ابن الغافل يتوق لأن يعلن الزبيري تنصره. لو فعل ذلك فسوف ينعدل ميزان الكون ويكتسب كل شيء شرعيته. أسرع الجنود فأحضروا الشيخ العجوز وبدأوا يناقشونه. كانت المسافة قصيرة جدا، خطوة يكفي أن يخطوها الشيخ فيصبح كاردينالا بدلا من أن يكون فقيها، ولكنه رفض. هبطوا به من بهو المسجد الذي أصبح كنيسة إلى القبو الواسع الذي بني تحتها منع عنه الطعام والماء. ثم بدأت عمليات التعذيب. رأى ابن الغافل أضلاع الشيخ وهي تعتصر، وجلده وهو يكوى بالحديد المحمي. كان العذاب أليما. لماذا لا يستسلم؟ لماذا ينتفض جسده هكذا ثم يسكن تماما؟.
كان أهالي المدينة قد تجمعوا يطالبون بعودة شيخهم. أخذوا يصيحون في غضب، ولكن الكاردينال خرج إليهم وهو يقول: بشراكم. لقد رأى الزبيري حلما يدعوه للدخول في النصرانية، ورفع إلى السماء كما رفع المسيح.
وصاح الناس في غضب جارف. تفجرت في داخلهم كل المرارات وكل قسوة الحصار. أخرجوا السيوف الصدئة والبنادق القديمة والسكاكين المثلومة واجتمعوا في حي "البيازين". أقاموا المتاريس واشتبكوا مع الجنود، ورأى ابن الغافل وجه الكاردينال ممتقعا وهو يطلب منه أن يعرف من هم رءوس هذه الثورة. كانت طاقة الغضب تعم المدينة كلها. حاصروا قصر الحمراء وطالبوا برأس الكاردينال في مقابل رأس الشيخ الزبيري. وظل الكاردينال مختبئاً في القبو حتى أرسلت إيزابيلا المزيد من جنود قشتالة.
كان الرد رهيبا. تحول حي "البيازين" إلى بحر من الدماء، وقتل جنود قشتالة كل من وجدوه أمامهم دون تمييز. اختلطت جثث الشيوخ والأطفال والنساء. كل الذين عجزوا عن الهرب دهستهم الخيل، وأعلنت إيزابيلا أنه يجب تقديم كل رءوس الثورة إلى محاكم التفتيش. وازدادت سلطة الكاردينال، أصبح هو المفتش الأعظم الذي أنيط به أن يحمي حق المسيح على الأرض، وانتشر قساوسته في كل أرجاء المدينة يقبضون على أي أحد لمجرد الشبهة.
صاحب السلطان كراكب الأسد، الناس تهابه وهو أدرى بما به. لا يذكر ابن الغافل من قال هذه الكلمات، ولكنها كانت تامة الانطباق عليه. لذا فقد قبل الزواج على الفور. كانت زوجته سمينة، كريهة الرائحة، بالغة العنوسة، ولكنها كانت تمت بصلة قرابة إلى المفتش الأعظم. قشتاليه أصيلة، لا تستحم إلا فيما ندر، وتأكل اللحوم نصف نيئة، وتكره الخضراوات والفاكهة وسماع أي كلمة بالعربية، فهل يمنحه هذا بعضاً من الأمان؟.
كان ابن الغافل يعيش كابوسه اليومي الخاص وهو يخوض في أقبية محاكم التفتيش. كانت قد استطالت وتلوت كالثعابين تحت سطح المدينة. وفي كل يوم تبتلع أجساد العاجزين عن التواؤم الروحي ولا تلفظهم إلا موتى. كان مفتشه الأعظم يجد متعة خفية في عمليات القتل البطيء وهو يستمع إلى التأوهات والصوت الخافت لتكسر العظام أو يشم رائحة اللحم المحترق. كان ابن الغافل خائفا من أن يكون مصيره يوما ما على آلة من مثل هذه الآلات التي تفنن المفتش في ابتكارها.
كان خائفا، ولكنهم لم يكونوا خائفين. هدأت الثورة داخل المدينة كي تبدأ في الجبال المحيطة بها. ثار أهالي جبل البشرة والجبل الأحمر، اعتصموا بمساكنهم وسط الصخور الوعرة. لم تكن مدافع "لومباردو" التي هزمت غرناطة قادرة على التعامل معهم. توجه إليهم جيش بقيادة أهم قواد قشتالة "الونثو دي إجيلار" الذي أثبت صلابته على مدى أربعين عاما في محاربة الأندلسيين. ولكن الصخور كانت في انتظاره، سلاح الأهالي الوحيد الذي وهبته لهم الطبيعة. انهالت على جيش "الونثو" ودفن هو تحتها. كانت ضربة هائلة لم تصدقها إيزابيلا فأرسلت زوجها فرناندو على رأس جيش أكثر قوة ولكنه لم يكن ليجرؤ على صعود الجبال أو مواجهة الصنخور، ولجأ إلى الأسلوب الذي يجيده: الحصار الشامل والطويل. كان يعرف أنهم يعيشون في هضاب وعرة، ماؤهم نادر وطعامهم قليل، وكان الزمن في صالحه. مات كل مالدى أهل الجبال من حيوانات، وجفت المياه الشحيحة ويبست الخضرة، كان الخيار أمامهم محدداً إما التنصير، أو عبور البحر إلى بلاد الإسلام البعيدة.
وبعد شهور طويلة لم يكن أمامهم إلا أن يستسلموا. بدأت صفوفهم الطويلة تهبط من بين فجاج الصخور، نسور ذابلة تعاني من شظف الجوع، رفضوا التنصير وفضلوا السير إلى مصيرهم المجهول. وكان المفتش الأعظم سعيداً، وكان ابن الغافل مازال يسأل نفسه: وماذا لو تطامنوا ورضوا؟ هل كانوا سيتركونهم أم سيبحثون لهم عن حجة أخرى ينتزعونهم بها من ديارهم.
ثم حانت لحظة الميلاد. خرج الطفل من رحم المرأة الإسبانية كالزهور تخرج من أرض سبخة. تولدت حياة غريبة من أجساد متنافرة. انحنى ابن الغافل ورفعه بين يديه ورغما عنه تمتم ببعض الآيات القرآنية، ثم فطن إلى أن زوجته تراقبه بعينين متفحصتين تحاول أن تقرأ حركة شفتيه. رسم علامة الصليب على صدره في ارتباك ثم خرج يعدو. أخفض رأسه إلى الأرض خوفاً من أن يقابله أحد قساوسة محاكم التفتيش فيقرأ أفكاره. شاهد نجوم السماء بعيدة، متألقة وغير خائفة. يا إلهى، كيف تخلقت هذه الحياة الجميلة، وكيف نبض بها جسد المرأة، وما هذه الغمغمات الخفية التي تدور حوله في الفضاء. ذكرى ضائعة، شيء ما تبدد واستعصى على الموت. نام على حافة النهر ثم استيقظ فجأة. تذكر التقويم القديم الذي رآه ذات مرة أمام الكاردينال قبل أن يحرق. اكتشف أنه قد حفظ منه معارج القمر وغرات الشهور. عرف يومها أنه في شهر رمضان فتعمد أن يأكل ويشرب أمام الجميع. كانت الخمر تقلص معدته ولكنه شربها، ولحم الخنزير يثير غثيانه ولكنه التهمه. ولم تغادر أيام التقويم مخيلته. نظر إلى السماء يبحث عن أثر القمر، ثم بدأ يعد على أصابعه كل الأيام التي توالت والأسابيع التي انصرمت. أيكون هذا هو فجر أول يوم من أيام العيد، وهذه الأصوات التائهة هي بقايا التكبيرات القديمة. كيف استطاعت هذه الأصوات الضائعة أن تقاوم الاندثار بعد أن انهار كل شيء .
تسلل عائداً إلى بيته. كانت نائمة والطفل هاجع بجوارها وهو يبتسم. أي حلم يدور في رأسه الصغير، أتراه هو أيضا سمع نفس الأصوات. مد يده وحمله إلى صدره. سار به عبر الشوارع والساحات إلى الحارات الضيقة والأحياء القديمة. سار إلى حي "البيازين". انحدرت به الدروب، احتوته بيوت الحي المتلاصقة، أدخلته في رحمها. سمع نبض الأدعية وهي تسري في عروقه. نثار من الكلمات العربية البديعة المحرم النطق بها. رائحة الميلاد ودفء الأفراح القديمة. ثم سمع صوت التكبيرات. كان موقنا أنها موجودة وحقيقية، آتية من خلف جدران صخرية سميكة، خافتة وعذبة ومتواصلة. دار حول الجدران حتى رآهم أمامه جالسين- رجالا ونساء- في ثياب بيضاء، كما كانوا دائما وكأن الإسبان لم يوجدوا "الله أكبر كبيراً.. والحمد لله كثيراً.. وسبحان الله بكرة وأصيلاً " جلس وسطهم وهو يردد الكلمات دون وعي حتى فرغوا.
التفتوا إليه. لم يتعرفوا على وجهه، أو ربما تجاهلوا هويته القديمة. قدموا له أطباق اللبن والعسل. وبدأ الطفل يبكي فهرعت إليه بعض النسوة وحملنه بين أيديهن وبدأن يهدهدنه. وصاحت إحدى النساء:
- هذا الطفل المسكين لم يختن بعد.
وقال شيخ عجوز يشبه الشيخ الزبيري تماما:
- اليوم نقوم بختانه ونحتفل به.
كان الطفل يصرخ والجميع يهللون في فرح وهم يرددون التكبيرات وكان ابن الغافل سعيداً. احتضن الطفل المرتجف وقد تطهر تماما، تطهرا معا، جديدان تماما. لم يدخلا هذا العالم الملوث ولم يسقطا خلف الأسوار، ولكن الوقت كان يمضي، ولحظات العيد تفر من بين أصابعهم. كان عليهم جميعا أن يخلعوا ثيابهم البيضاء وأن يكفوا عن الحديث بالعربية. وأن يعودوا إلى حياة الخوف في شوارع المدينة. انتهى الطقس كالحلم. وكان على ابن الغافل أن يحمل ابنه ويعود به.
شوارع خالية. لا صوت إلا صوت قدميه وهما تتثاقلان فوق الأحجار البيضاء. كان الطفل نائما. ذهب الألم وحلت عليه السكينة. دخل البيت فوجدها متيقظة في أنتظاره. كان المفتش الأعظم بذاته يقف خلفها. حدقا فيه بنظرات وباردة. مدت يدها فأعطاها الطفل. اقترب المفتش ومد أصابعه الشبيهة بالمخالب وكشف عن جسده. تأمل آثار الختان وقال في صوت بارد:
- كنت أعرف منذ البداية أن في أعماقك مسلما لا يستحق سوى الموت.
ــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر
من فضاء المعرفة
لاحول ولا قوة الا بالله
تاريخ مؤلم بعد العزه ياتي الذل