تاريخ عادة إستطلاع هلال رمضان
وقبل أن نعرج على تقاليد الرؤية تاريخيا نبذة عن تقاليد الشام في رؤية الهلال وطرق إثباته, فقد كان القاضي ينتدب مجموعة من الرجال الموثوقين لرؤية الهلال خارج المدينة, لأن العمران قد يحجب رؤيته عند غروب الشمس, وقد لا يمكث سوى دقائق معدودة.
وعلى مستوى آخر كانت تجرى محاولات لرؤيته من فوق أسطح المنازل أو المآذن, فإذا ثبتت رؤيته أخبروا القاضي, فيأمر بإعلان ثبوت رمضان, وكان إعلام الناس بثبوته يتم عن طريقين هما رفع الفوانيس على المآذن وإطلاق المدافع, ولنا وقفة إن شاء المولى تعالى عن تاريخ مدفع رمضان منذ العصر المملوكي وحتى أيامنا الحاضرة.
ولا يوجد تفاصيل في الكتب المتأخرة عن كيفية ترقب هلال رمضان, ولكن البديري الحلاق يخبرنا في يومياته التي كتبها في عصر أسعد باشا العظم أن إثبات شهر رمضان كان يتأخر إلى ما بعد العشاء وفي بعض السنوات إلى منتصف الليل.
وحدثني بعض كبار السن أن إثبات هلال رمضان في الخمسينيات كان يتم بإخبار رجل من آل الأحدب في حماة اشتهرباسم أعور حماه وعرف برؤية الهلال بدقة, ومن الطريف أنه كان يرى بعين واحدة, ولكنها حادة الرؤية, ولم يسجل عليه أي خطأ في رؤيته.
وذكر لي بعضهم أن قسما من أهل دمشق كانوا يذهبون إلى قرية سبينة, وهناك كانت فتحات لغطاء نهر يمر بالقرية, وكانوا يرون انعكاس هلال رمضان على المياه داخل إحدى الفتحات, وتوافق رؤيتهم لهلال رمضان وشوال مع من يخرج لاستطلاع الهلال خارج المدينة.
ولا تزال تقاليد إعلام الناس بإثبات هلال رمضان وشوال تتم في سورية عن طريق إعلان القاضي الشرعي الأول بدمشق, بينما يتولى المفتون في أغلب الدول العربية هذه المهمة, مع أن مهمة القاضي تختلف عن مهمة المفتي فالقاضي يأمر ويحكم على الناس وتطبيق أمره ملزم للناس بينما مهمة المفتي الفتوى دون إلزام لكنه يعد المرجع الروحي الأعلى للناس.
ونعود إلى التاريخ لنرى أن العادة جرت منذ العصور الإسلامية الأولى على خروج مجموعة من الناس في آخر شهر شعبان لرؤية هلال رمضان, لأن الفقهاء يرون رؤية الأهلة من فروض الكفاية, لما يترتب عليها من الأحكام الفقهية والشرعية اقتداء بالسنة الشريفة وقد جرت العادة في المدن الكبرى كدمشق والقاهرة وحلب على خروج القاضي لرؤية هلال رجب وما بعده احتياطا لشهر رمضان.
واختلف المؤرخون في أول من خرج لرؤية هلال رمضان من قضاة مصر, فذكر السيوطي إن أول من خرج لرؤية الهلا ل في مصر القاضي غوث بن سليمان الذي توفي سنة 168هجرية, وقيل إن أول قاض ركب في الشهود إلى رؤية الهلال هو أبو عبد الرحمن بن لهيعة الذي تولى قضاء مصر بعد وفاة أبي خزيمة سنة 155هجرية الموافقة 771 ميلادية.
وقال الكندي: طلب الناس هلال شهر رمضان وابن لهيعة على القضاء فلم يره أحد وأتى رجلان وزعما أنهما رأيا الهلال فبعث بهما الأمير موسى بن علي بن رباح إلى ابن لهيعة فسأل عن عدالتهما فلم يعرفا, واختلف الناس وشكوا, فلما كان العام المقبل خرج عبد الله ابن لهيعة في نفر من أهل المسجد عرفوا بالصلاح فطلبوا الهلال وكانوا يطلبونه بالجيزة, ثم تعدوا الجسر في زمن هشام بن أبي بكر البكري وطلبوا الهلال في جنان بن أبي جبيش.
وقد سن ابن لهيعة لمن بعده من القضاة هذه السنة الحسنة فكانوا يخرجون إلى جامع عبود بسفح المقطم لترائي الهلال في شهري رجب وشعبان احتياطا لإثبات هلال رمضان.
ولتحقيق هذا الغرض أعدت للقضاة دكة عرفت (بدكة القضاة ) بجبل المقطم ترتفع عن المساجد يجلسون عليها لنظر الأهلة منها وقد بني في العهد الفاطمي مسجد مكان هذه الدكة ولم تستمر رؤية القضاة لهلال رمضان في العصر الفاطمي.
فقدأبطل الخلفاء الفاطميون رؤية القاضي للهلال, وجعلوا الشهور الرمضانية شهرا تسعة وعشرين يوما وشهرا ثلاثين فإذا وقع رمضان في أحدهما أمضوه كما هو, وأصبح ركوب الخليفة الفاطمي أول رمضان يقوم مقام إثبات الرؤية عندهم, ولكن الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله أباح صوم رمضان بالرؤية لمن يريد, وقد ترك القضاة في العهود الأخيرة الخروج للرؤية وتحول ذلك إلى المفتين الذين يقومون بهذه المهمة.
وفى العصر الحديث تطورت وسائل رؤية الهلال تطورا كبيرا فدخلت فيها المراصد والأقمار الصناعية, وفي كل عام يسعى العلماء لإضافة وسائل جديدة لرصد الهلال تسهل من الرؤية السليمة له لحظة ميلاده, وتذلل من الصعوبات الرئيسية التي تواجه عملية الاستطلاع.
ومع ذلك لا تزال خلافات قائمة حول ثبوته بين الأقطار لأنه يولد الهلال بجوار قرص الشمس ويكون ضوءه ضعيفا خافتا وتؤثر أشعة الشمس على ظهوره بوضوح في صفحة السماء كما تؤثر عوامل التلوث بالغلاف الجوي على الرؤية العادية له, وهذا هو سبب اختلاف الرؤية من بلد لآخر.
ولإيجاد حل لهذه المشكلة, تم مؤخرا استخدام مجموعة جديدة من المناظير المحمولة والكاميرات السريعة الإلكترونية التي تعمل بالحاسب الآلي والكمبيوتر وكاميرات رادار بالليزر لتتبع الأقمار الصناعية بسرعة فائقة لتوفير استطلاع دقيق للهلال.
|