![]() |
|
البحث في منتديات مصراوى سات |
بحث بالكلمة الدلالية |
البحث المتقدم |
الذهاب إلى الصفحة... |
![]() |
|
أدوات الموضوع |
#1
|
||||
|
||||
![]() مقدمة حول التعارض في القرآن يَعْرِضُ أحيانًا لقارئ كتاب الله الكريم بعض الآيات التي تدل بظاهرها على تعارض وعدم توافق مع آيات أُخر؛ فيشكل الأمر على القارئ لكتاب الله -وخاصة إذا كان زاده من علم التفسير يسيراً- وربما أورث ذلك شكًا في نفسه، فيقف حائرًا في ذلك، ومتسائلاً عن وجه التوفيق بين ما بدا له من تعارض. فقد يبدو -للوهلة الأولى- أن ثمة تعارضًا بين بعض آيات الكتاب الكريم، لكن إذا أمعنا النظر، وأعملنا البحث، بدا لنا وجه الحق في الأمر، وعلمنا أن آيات القرآن لا تعارض بينها البتة، وأن ما يبدو فيها من تعارض واختلاف، إنما هو تعارض واختلاف في أذهاننا فحسب، أما في حقيقة الأمر فليس هناك تعارض ولا اختلاف؛ إذ كيف يكون ذلك، ومصدر الكتاب واحد، وهو رب العالمين: **ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيراً} (النساء:82) والآية الكريمة تدل بمفهومها، أن القرآن الكريم ما دام من عند الله فليس من المعقول عقلاً، ولا من المقبول شرعًا أن يكون فيه اختلاف أو تعارض؛ إذ إن مثل هذا الأمر مما يقبح في كلام البشر، فكيف يليق بكلام رب البشر. وكشفًا لحقائق الأمور، وإزالة لما يُرى من تعارض واختلاف، فقد قام العلماء بوضع علم خاص، أدرجوه ضمن علوم القرآن، وأسموه علم (مشكل القرآن) على غرار ما فعل علماء الحديث، في التأليف في علم (مشكل الحديث) والغاية من هذا العلم إزالة ما يوهم التعارض والاختلاف بين آيات الكتاب العزيز. وقد أُفردت لهذا العلم كتب عديدة، نذكر منها على سبيل المثال: كتاب (الفوائد في مشكل القرآن) لابن عبد السلام المتوفى (660هـ) وهو كتاب قيِّم في بابه؛ ومن الكتب المهمة في هذا الجانب أيضًا كتاب (دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب) للشيخ الشنقيطي (1393هـ) حيث جمع فيه جملة من الآيات الكريمة التي يفيد ظاهرها التعارض والاختلاف، ووفَّق بينها بما يزيل الإشكال؛ كذلك تعرَّض كثير من المفسرين لبعض مباحث هذا العلم، أثناء تفسيرهم لكتاب الله تعالى. وانطلاقًاً من أهمية هذا العلم وغايته، فإننا في محور القرآن الكريم ستكون لنا وقفة مع بعض الآيات التي يفيد ظاهرها التعارض والاختلاف، نحاول فيها بيان أوجه التوفيق والجمع بينها، معتمدين في ذلك على أقوال أهل العلم في هذا الشأن؛ واللهَ نسأل الرشد والصواب في الأمر كله. ......... ليحملوا أوزارهم ... ومن أوزار الذين يضلونهم من المعلوم بالضرورة في شرائع السماء عموماً، وفي شريعة الإسلام على وجه الخصوص، أن الإنسان لا يعاقب على ذنب فعله غيره، ولا يحاسب على جرم اقترفه إنسان آخر؛ ونصوص القرآن في تقرير هذا المعنى عديدة، من ذلك قوله تعالى: **لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (البقرة:286)، وقوله سبحانه: **ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164)، وقوله تعالى: **لتجزى كل نفس بما تسعى} (طه:15)، ونحو ذلك من الآيات. ومقابل هذه الآيات التي تقرر أن المسؤولية العقابية لا يتحملها إلا الفاعل نفسه، نجد من الآيات التي تقرر أن صاحب الذنب قد يعاقب على ذنب فعله غيره؛ من ذلك قوله تعالى: **ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم} (النحل:25)، وقوله سبحانه: **وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم} (العنكبوت:13)، فهاتان الآيتان يفيد ظاهرهما أن بعض الناس سوف يعاقبون على أفعال ارتكبها غيرهم، ولم يرتكبوها أنفسهم، الأمر الذي يوحي بأن ثمة تعارضاً بين الآيات النافية لتحمل آثام الآخرين، والآيات المثبتة لذلك. ولا شك، فإن كتاب الله أجلُّ وأعظم من أن يتضمن تعارضاً بين آياته؛ إذ هو من عند الله سبحانه، **لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} (فصلت:42). وما يبدو من تعارض بين آياته إنما مرده لمحدودية عقل الإنسان فحسب، وواقع الأمر ألا تعارض. وقد أجاب العلماء على ما يبدو من تعارض بين الآيات بأن قالوا: إن الأصل في الحساب والعقاب يوم القيامة أن لا يحمل الإنسان تبعات غيره؛ لأن هذا يتنافى مع مبدأ العدل الذي أقرته شرائع السماء كافة، غير أن هذا الأصل قد يطرأ عليه ما يكون استثناء منه لسبب يقتضي ذلك، على ما سنبينه قريباً. ونحن نمثل لذلك بمثال من واقع الناس فنقول: لو أن شخصاً ما حرَّض شخصاً آخر على قتل إنسان ما، فاستجاب هذا الشخص لهذا التحريض، وقام بقتل ذلك الإنسان، فإن القضاء هنا يعاقب الفاعل المباشر وهو القاتل، ويعاقب الفاعل غير المباشر أيضاً، وهو المحرض على القتل. وليس من العدل أن يقال هنا: إن العقاب يجب أن ينصب على الفاعل المباشر دون المحرض؛ لأن المحرض - باعتبار ما - يُعتبر متسبباً في القتل من جهة أنه حرض ذلك الشخص، ودفعه إلى مباشرة القتل، ولولا ذلك التحريض لما وقع القتل. وعليه فلا يصح إسناد فعل القتل هنا للفاعل المباشر دون المحرض؛ إذ لو صح ذلك لكان ذلك الحكم جائراً غير عادل. وما نحن فيه من الآيات لا يبعد كثيراً عما مثلنا به آنفاً؛ وذلك أن تلك الآيات تفيد تحمل العقاب على فعل فعله آخرون؛ وذلك باعتبار أن هؤلاء الحاملين لأوزار غيرهم إنما نالوا هذا العقاب من جهة أنهم كانوا السبب وراء من ضل عن سبيل الله، فنالهم العقاب بهذا الاعتبار، فكان العدل تحميلهم تبعات ما قاموا به من إضلال لغيرهم. ولا ينبغي أن يُفهم من هذا أن ما يحمله المضلون من أوزار غيرهم يعفي الضالين من الحساب والعقاب، بل كلا الفريقين محاسب جراء عمله، فالمضلون يحملون أوزار من أضلوهم، ويعاقبون على ذلك بسبب إضلالهم إياهم، والضالون يحملون أوزار أنفسهم جراء اتباعهم لأولئك المضلين. وقد روي عن مجاهد في قوله تعالى: **وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم}، قال: ذنوبهم وذنوب من أطاعهم، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً. على أننا لو دققنا النظر في الأمر لتبين لنا أن ما يحمله المضلون من أوزار الضالين هو في الواقع نتيجة عملهم وكسبهم؛ إذ لما كان هؤلاء المضلون سبباً مباشراً لضلال أولئك الأتباع، صح أن يعاقبوا ويحاسبوا على فعل كانوا هم السبب في وجوده وتحقيقه، فكان ما حملوه من عقاب ليس بسبب فعل قام به غيرهم، وإنما بسبب فعل قاموا به بأنفسهم، فوضح بذلك أن العقاب نالهم بما كسبت أيديهم، لا بما كسبه غيرهم. وقد ورد في السنة ما يدل على ما تقدم بيانه؛ فقد روى مسلم في "صحيحه" من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابتهم حاجة، فحث الناس على الصدقة فأبطؤوا عنه، حتى رئي ذلك في وجهه، ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرة من وَرِق - فضة -، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عُرف السرور في وجهه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده كُتب له مثل أجر من عمل بها، ولا ينقص من أجورهم شيء؛ ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء). وفي رواية أخرى من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً) رواه مسلم. فهذا الحديثان يدلان دلالة واضحة على ما كنا بيناه سابقاً، من أن الإنسان يتحمل مسؤولية عمله، إذا كان لعمله أثر مباشر أو غير مباشر على غيره. وتأسيساً على ما سبق بيانه، فمن كان إماماً في الضلالة ودعا إليها، واتبعه الناس عليها، فإنه يحمل يوم القيامة وزر نفسه، ووزر من أضله من الأتباع، من غير أن ينقص من وزر الضالين شيء. وعلى ضوء ما تقدم، يتبين أن الأصل الذي ذكرناه بخصوص الحساب والعقاب ليس على إطلاقه، وإنما هو مقيد بحيث لا يكون لفعل الإنسان أثر على غيره، فإن كان ذلك كذلك كان مشتركاً في الحساب والعقاب، من جهة أنه كان سبباً. فوضح بهذا التقرير ألا تعارض حقيقي بين تلك الآيات. ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, الهداية في القرآن على نوعين في صدر سورة البقرة، يخبر سبحانه أن هذا القرآن: **هدى للمتقين} أي: في القرآن إرشاد للمتقين، واهتداء لما فيه صلاحهم وفلاحهم في العاجل والآجل؛ ونقرأ في السورة نفسها، بعد تقرير فريضة الصيام، قوله تعالى في صفة هذا القرآن، أنه: **هدى للناس} (البقرة:185). وظاهر الآية الأولى، أن هداية القرآن الكريم خاصة بالمتقين فحسب؛ بينما جاءت الآية الثانية عامة، فوصفت هدى القرآن بأنه للناس، ولفظ (الناس) لفظ عام، يشمل المتقين وغيرهم، والمؤمنين ومَن سواهم. ويبدو للناظر أن بين الآيتين تعارضًا، ووجه الجمع بينهما - كما قرر أهل العلم - أن يقال: إن الهداية في القرآن نوعان: هداية دلالة وإرشاد، وهو الذي تقدر عليه الرسل وأتباعهم، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: **ولكل قوم هاد} (الرعد:7) أي: لكل قوم هاد يدلهم ويُرشدهم إلى سُبُل الحق؛ ومن هذا الباب قوله جلا وعلا: **وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) فأثبت سبحانه للرسل ومن سلك سبيلهم الهدى، الذي معناه الدلالة، والدعوة، والتنبيه؛ وتفرد سبحانه بالهدى -وهو النوع الثاني- الذي معناه التأييد والتوفيق والتسديد، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: **إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء} (القصص:56) فالهداية هنا بمعنى التوفيق لالتزام سبيل المؤمنين، ونهج سلوك المتقين، وهو المعنيُّ في قوله تعالى: **ويهدي من يشاء} (يونس:25). ونزيد الأمر وضوحًا، فنقول: إن الهداية في القرآن تأتي على نوعين: أحدهما عام، والثاني خاص؛ فأما الهداية العامة، فمعناها إبانة طريق الحق والرشاد، وإيضاح المحجة والسداد، وعلى هذا المعنى جاء قوله تعالى: **وأما ثمود فهدينهم} (فُصِّلت:17) والمعنى: بيَّنا لهم طريق الحق من الضلال، ووضَّحنا لهم طريق الرشاد من الفساد، بَيْدَ أنهم آثروا الثاني على الأول؛ فالأمر هنا أمر اختيار واختبار، يوضع أمام العبد ليختار منهما ما يشاء، والدليل على هذا الاختيار، قوله سبحانه: **فاستحبوا العمى على الهدى} (فُصِّلت:17) أي: استحبوا طريق الضلال على طريق الرشاد؛ ومثله أيضًا قوله تعالى: **وهديناه النجدين} (البلد:10) أي: بيَّنا له طريق الخير وطريق الشر. وأما الهداية الخاصة، فهي تفضُّل من الله سبحانه على العبد بتوفيقه إلى طاعته، وتيسيره سلوك طريق النجاة والفلاح؛ وعلى هذا المعنى جاء قوله عز وجل: **أولئك الذين هدى الله} (الأنعام:90) وقوله سبحانه: **فمن يُرِد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام} (الأنعام:125). إذا علمت هذا، فلا يُشكل عليك فهمُ ما جاء من آيات تخصُّ الهداية بالمتقين، وما جاء من آيات عامة، تعمُّ الهداية للناس أجمعين؛ وبه أيضًا يرتفع ما يبدو من إشكال بين قوله تعالى: **إنك لا تهدي من أحببت} (القصص:56) وبين قوله سبحانه: **وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} (الشورى:52) لأن الهداية المنفيَّة عنه صلى الله عليه وسلم في الآية الأولى هي الهداية الخاصة، إذ التوفيق بيد الله سبحانه؛ أما الهداية المثبتة له عليه الصلاة والسلام في الآية الثانية، فهي الهداية بمعناها العام، وهي إبانة الطريق، وهو ما فعله صلى الله عليه وسلم، وقام به أحسن القيام، وأتمَّه خير التمام، حتى ترك أمته على المحجَّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك. على أن للمفسرين توجيهات أُخرى لآية البقرة **هدى للمتقين} وما شابهها من آيات، لا ينبغي أن يُغفل عنها في مقام كهذا؛ فقد قالوا: - خصَّ سبحانه المتقين بالهداية، وإنْ كان القرآن هدى للخلق أجمعين؛ تشريفًا لهم، وإجلالاً لهم، وكرامة لهم، وبيانًا لفضلهم؛ لأنهم آمنوا به، وصدقوا بما فيه. - إنَّ تخصيص الهدى بالمتقين باعتبار الغاية، أي: إن من استمسك بهدي القرآن فإن عاقبته أن يكون من المتقين. - إن اختصاصه بالمتقين؛ لأنهم المهتدون به فعلاً، والمنتفعون بما فيه حقيقة، وإن كانت دلالته عامة لكل ناظر من مسلم أو كافر؛ وبهذا الاعتبار قال تعالى: **هدى للناس}. ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ما أصابك من حسنة فمن الله في سورة النساء نقرأ قوله تعالى: **أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله} (النساء:78) وبعدها مباشرة نقرأ قوله عز وجل: **ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} (النساء:79) ونقرأ أيضًا قوله سبحانه في سورة آل عمران: **قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:165). وقد يظن للوهلة الأولى أن قوله سبحانه: **وما أصابك من سيئة فمن نفسك} مناف لقوله تعالى: **قل كل من عند الله } ولقوله أيضًا: **وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله} (آل عمران:166) ولقوله: **ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35) وليس الأمر كذلك. وهذه القضية التي تتناولها الآيات السابقة، هي جانب من قضية كبيرة؛ القضية المعروفة في تاريخ العالم كله باسم " القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار". والواقع، فإن فهم هذه الآيات فهمًا صحيحًا يستدعي أمرين؛ أولهما: النظر إليها في السياق الذي وردت فيه؛ إذ لا يستقيم ولا يصح فهمها وهي منعزلة عن سياقها الخاص. وثانيهما: النظر إليها وفق المنظومة القرآنية العامة، أو بعبارة أخرى، النظر إليها نظرة كلية عامة، وضمن إطار الآيات القرآنية الأخرى؛ إذ إن آيات الكتاب يشهد بعضها لبعض، ويؤيد بعضها بعضًا. وانطلاقًا من هذين الأمرين نستطيع التوفيق بين ما قد يظهر من تعارض في الآيات التي نحن بصددها. على ضوء هذا نقول: إن قوله سبحانه: **قل كل من عند الله} معناه: قل يا محمد، للقائلين إذا أصابتهم حسنة: **هذه من عند الله} وإذا أصابتهم سيئة: **هذه من عندك} قل لهم: إن كل ذلك من عند الله؛ فمن عنده سبحانه الرخاء والشدة، ومنه النصر والظَفَر، ومن عنده الفوز والهزيمة. ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: **قل كل من عند الله} قال: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها. وعن قتادة في قوله سبحانه: **قل كل من عند الله} قال: النعم والمصائب. وعن ابن زيد قال: النصر والهزيمة. وعن أبي العالية قال: هذه في السراء والضراء. وعلى هذا فمعنى الآية الكريمة: إن كل ما أصاب الناس من خير أو شر، أو ضر أو نفع، أو شدة أو رخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاء ونعمة إلا بمشيئته. فالجميع بقضاء الله وقدره، وهو نافذ في البِر والفاجر، والمؤمن والكافر. وفي هذا إعلام من الله لعباده، وتقرير لحقيقة مفادها: إن مفاتح الأشياء كلها بيده سبحانه، لا يملك شيئًا منها أحد غيره. أما قوله عز وجل: **وما أصابك من سيئة فمن نفسك} يعني: ما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه، فمن نفسك، أي: بسبب ذنب اكتسبته نفسك. وفي ذلك آثار أيضًا؛ فعن السدي قال: **وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي: من ذنبك. وعن قتادة قال: **وما أصابك من سيئة فمن نفسك} أي: عقوبة يا ابن آدم بذنبك. وعن أبي صالح قال: بذنبك، وأنا قدَّرتها عليك. وقد ورد في الكتاب العزيز ما يفيد معنى هذه الآية؛ كقوله تعالى: **وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} (الشورى:30) أي: بذنوبكم وبما كسبت أيديكم؛ وقوله في سورة آل عمران بشأن أهل غزوة أحد: **أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم} (آل عمران:65). فحاصل المعنى هنا: ما أصابك أيها المؤمن من خصب ورخاء، وصحة وسلامة، وغنى وفقر، وسراء وضراء، ونعمة ونقمة، فبفضل الله عليك وإحسانه إليك؛ وما أصابك من جدب وشدة، وهمٍّ وغمٍّ، ومرض وسقم، فبذنب أتيته، وإثم اقترفته، وعمل كسبته، فعوقبت عليه. وفي تفسير ابن كثير عن مطرف بن عبد الله قال: ما تريدون من القدر؟ أما تكفيكم الآية التي في سورة النساء: **وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك} أي: من نفسك؛ والله ما وكلوا إلى القدر، وقد أمروا وإليه يصيرون. قال ابن كثير معقبًا: وهذا كلام متين قوي في الرد على القدرية والجبرية أيضًا. قال أهل العلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يشك في أن كل شيء بقضاء الله وقدره وإرادته ومشيئته، كما قال تعالى: **ونبلوكم بالشر والخير فتنة} (الأنبياء:35). فالآية -موضع البحث- تقرر حقيقة مهمة حاصلها: أن الله سبحانه هو المقدر لكل ما يقع في الكون؛ فما يقع في الكون من خير، فهو بتقديره؛ وما يقع من شر فهو بتقديره أيضًا، لكنه سبحانه -وهو العليم الحكيم- يقدر الشر والضر لسبب؛ فما أصابك أيها الإنسان من خير فهو بتقدير الله، وبسبب من أعمالك الصالحة، وما أصابك من شر فبسبب ذنوبك الطالحة، ولا يظلم ربك أحدًا. إن الإنسان قد يتجه ويحاول تحقيق الخير بالوسائل التي أرشد الله إليها، بَيَدَ أنَّ تحقق الخير فعلاً، لا يتم إلا بإرادة الله وقدره. وكذلك، فإن الإنسان قد يتجه إلى تحقيق السوء. أو يفعل ما من شأنه إيقاع السوء. ولكن وقوع السوء فعلاً، ووجوده أصلاً، لا يتم إلا بقدرة الله وقدره. فكل أمر في هذا الكون لا ينشأ ولا يتحقق إلا بإرادة الله وقدره. وما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة -بأي معنى من معاني الحسنة أو السيئة، سواء حسب ما يبدو في الظاهر، أو حسب ما هو في حقيقة الأمر والواقع- فهو من عند الله؛ لأنه لا ينشىء شيئًا ولا يحدثه ولا يخلقه ولا يوجده إلا الله. أما ما يصيب الإنسان من حسنة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند الله، لأنه بسبب منهجه وهدايته. وما يصيبه من سيئة حقيقية - في ميزان الله - فهو من عند نفسه، لأنه بسبب تنكُّبه منهج الله، وإعراضه عن هدايته ومنهجه. وبهذا البيان يستقيم فهم الآيات والتوفيق بينها. ،،،،،،،، فإن خفتم ألا تعدلوا في الآيات الأولى من سورة النساء، يُطالعنا -في تشريع النكاح والتعدد في الزوجات- قوله تعالى: **فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة} (النساء:3) وفي السورة نفسها في موضع آخر، نقرأ قوله سبحانه: **ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} (النساء:129) فالآية الأولى تدل على أن العدل بين الزوجات أمر ممكن ومستطاع، وأنه مقدور للمكلف إذا قصد إليه؛ بدليل الأمر بالنكاح، وإباحة الجمع بين الثنتين والثلاث والأربع؛ في حين أن الآية الثانية، تنفي إمكانية العدل بين النساء، وتقرر بنصها أن العدل بين الزوجات أمر خارج عن مقدور المكلفين !! فكيف السبيل للتوفيق والجمع بين الآيتين الكريمتين؟ وقبل الإجابة على هذا السؤال، لا بد من الإشارة إلى أن بعض من قلَّ زاده من العلم، يستند إلى الآية الثانية، ليقول: إن تعدد الزوجات في الإسلام أمر غير مشروع، محتجًا بأن العدل بين الزوجات أمر خارج عن طوق المكلف بنص الآية، وبالتالي فإنه إن فَعَلَ ذلك، فإن فِعْلَه يؤدي إلى الظلم، والظلم ممنوع في الشريعة ومدفوع، وهو ظلمات يوم القيامة. ومما يؤسف له، أن هذا الفهم الخاطئ للآية الكريمة قد وقع فيه بعض أصحاب الأقلام المقروءة، والكلمات المسموعة، فراحوا لأجله يكتبون ويناقشون، وأصبحوا عنه ينافحون ويخاصمون. وتبعهم على ذلك رعاء الناس، ممن لا هم في العير ولا في النفير. ولعلنا فيما يلي من سطور، نحاول إيضاحَ الحق في هذه المسألة، وبيانَ وجه الجمع فيما يبدو من تعارض بين الآيتين الكريمتين، فنقول: إن (العدل) الممكن والمستطاع بين الزوجات، والذي يُفهم من الآية الأولى، إنما هو العدل الذي يَدخل في قدرة المكلف، وهو هنا توفية الحقوق الشرعية، وتأديتها على الوجه المطلوب، من طعام وكساء ومسكن، وكل ما يليق بكرامة المرأة كمخلوق. فهذا -ولا شك- مما سُلِّط الإنسان عليه، ومُكِّن من القيام به، وجاء الخطاب الشرعي به، تكليفًا وإلزامًا والتزامًا؛ فإن قام به المكلف أُجِر ونال رضى الله وثوابه، وإن قصَّر فيه وفرَّط استحق غضب الله وعقابه. أما (العدل) المنفي في الآية الثانية، فإنما هو العدل القلبي، إذ الأمور القلبية خارجة عن إرادة الإنسان وطاقته، فلا يتأتَّى العدل فيها، إذ لا سلطان للإنسان عليها. فالمشاعر الداخلية، من حب وكره، والأحاسيس العاطفية، من ميل ونفور، أمور لا قدرة للإنسان عليها، وهي خارجة عن نطاق التكليف الموجَّه إليه، فلا تكليف فيها؛ إذ من المقرر أصولاً أن التكاليف الشرعية لا تكون إلا بما كان مستطاعًا للمكلف فعله؛ أما ما لم يكن كذلك، فليس من التكليف في شيء. وعلى ضوء هذا المعنى ينبغي أن تُفْهَمَ الآية الثانية، وهي الآية التي نفت إمكانية العدل بين الزوجات. وهذا الذي قلناه وقررناه هو رأي سَلَفِ هذه الأمة وخَلَفِها، وهو الرأي الذي لا تذكر كتب التفسير غيره، ولا تعوِّل على قول سواه. وبيان ذلك إليك: قال أهل التفسير في قوله تعالى: ** فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة} قالوا: هذا في العشرة والقَسْم بين الزوجات الأربع والثلاث والاثنتين، فإن لم يمكن العدل بينهن فليُقتصر على واحدة؛ وتُمنع الزيادة على ذلك لأنها تؤدي إلى ترك العدل في القَسْم، وتدفع إلى سوء العشرة، وكلا الأمرين مذموم شرعًا، ومنهي عنه. وعند تفسير قوله تعالى: **ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل} قالوا: أخبر تعالى بنفي الاستطاعة في العدل بين النساء، وذلك في ميل الطبع بالمحبة والحظ من القلب، فوصف الله تعالى حالة البشر وأنهم - بحكم الخِلْقة - لا يملكون ميل قلوبهم إلى بعض دون بعض. واستدلوا لهذا التوجيه في الآية، بسبب نزولها، وهو ما روته عائشة رضي الله عنها، قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم إن هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك، ولا أملك) يعني القلب، رواه أبو داود وأحمد وإسناد الحديث صحيح، كما قال ابن كثير. بل كان صلى الله عليه وسلم يشدد على نفسه في رعاية التسوية بينهن، تطييبًا لقلوبهن، ويقول: **اللهم هذه قدرتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك) لإيثاره عائشة رضي الله عنها، دون أن يظهر ذلك في شيء من فعله. وكان في مرضه الذي توفي فيه يُطاف به محمولاً على بيوت أزواجه، إلى أن استأذنهنَّ أن يقيم في بيت عائشة، فأذنَّ له. وعن قتادة، قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول: اللهم! أما قلبي فلا أملك، وأما سوى ذلك، فأرجو. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: **ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} يعني: في الحب والجماع. ثم لما كانت الأمور القلبية وما في معناها خارجة عن قدرة الإنسان، توجَّه الأمر إلى ما هو داخل ضمن قدرته وفي مجال استطاعته، فقال تعالى: **فلا تميلوا كل الميل} أي: إذا مالت قلوبكم إلى واحدة دون غيرها، وهذا أمر لا مؤاخذة عليكم به، فلا يمنعكم ذلك من فعل ما كان في وسعكم، من التسوية في القَسْم والنفقة، وعدم الإساءة إليهن، ماديًا ومعنويًا. لأن هذا مما يستطاع، ويُطالب به المكلف. وفي الحديث: (من كانت له امرأتان، ولم يعدل بينهما، جاء يوم القيامة وشقه مائل) رواه أبو داود والنسائي. وعلى ضوء ما تقرر وتبيَّن، يكون الجمع بين الآيتين بأن يقال: فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القَسْم وحُسن العشرة ونحوهما، فانكحوا واحدة، ولا تزيدوا على ذلك؛ وإنكم -أيها الناس- لن تستطيعوا أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه، فإنه وإن وقع القَسْم الصوري منكم، فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة؛ فمن كان منكم أميل بالطبع إلى إحدى الزوجات، فليتقِ الله في البواقي منهن، وليعدل بين من كان تحت عصمته في الحقوق الشرعية، ولا يدعوه الميل القلبي إلى إحدى الزوجات إلى عدم إعطاء باقي الزوجات ما لهن من حقوق شرعية. وبما تقدم نأمل أن نكون قد وِفِّقنا في الجمع بين الآيتين، وإيضاحِ ما يبدو بينهما من تعارض ظاهر. ,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثابت بالكتاب والسنة، وهو من أعظم واجبات الشريعة المطهرة، وأصل عظيم من أصولها، وركن مشيد من أركانها، وبه يكمل نظامها ويرتفع سنامها؛ كيف لا وقد قال تعالى في محكم كتابه الكريم: **ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} (آل عمران:104) والأحاديث الثابتة في ذلك مستفيضة مشهورة. لكن قد يُشكل على هذا الأصل ما جاء في سورة المائدة من قوله تعالى: **يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة:105) فقد يتبادر إلى الذهن أن ثَمَّة تعارض بين آية آل عمران -الموجبة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وبين آية المائدة، والتي يدل ظاهرها على لزوم الإنسان أمر نفسه، وأنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، كما قد يفهم منها البعض ذلك، وليس الأمر في الواقع كذلك، وليس ثَمَّة تعارض بين الآيتين، وفيما يلي بيان لما قد يبدو من تعارض: روى الترمذي في "جامعه" عن قيس بن أبي حازم، عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس: إنكم تقرؤون هذه الآية، وتتأولونها على غير تأويلها: **يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا أهتديتم} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يعمهم الله بعقاب) رواه أصحاب السنن، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح. قال ابن كثير في توجيه آية المائدة: وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إذا كان فعل ذلك ممكنًا؛ ثم استدل على هذا التوجيه بالأحاديث الحاثَّة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده، لتأمرنَّ بالمعروف، ولتنهونَّ عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقابًا من عنده، ثم لتدعنَّه فلا يستجيب لكم) رواه أحمد. وإذا كان الأمر كذلك، فلا ينبغي أن يتوهم من هذه الآية أنها رخصة للمسلمين في ترك الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن جميع ذلك واجب بأدلة كثيرة، جاءت بها الشريعة؛ يوضح هذا أن الله سبحانه وتعالى أمر عباده المؤمنين أن يقوموا بالقسط، ويتعاونوا على البر والتقوى؛ ومن القيام بالقسط، الأخذ على يد الظالم. ومن التعاون على البر والتقوى، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. على أن آية المائدة نفسها تدل على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبيان ذلك من وجهين: أولهما: أن قوله تعالى: **عليكم أنفسكم} معناه: ألزموا أنفسكم طاعة الله، وطاعة رسوله؛ ومن طاعة الله وطاعة رسوله القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثانيهما: أن قوله سبحانه: **لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} يفيد أنه إذا تمسكنا بالهدى والتزمناه لم نؤاخذ بضلال من ضل، ولا بكفر من كفر؛ ومن جملة تمسكنا بالهدى، أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، فإن ذلك داخل في قوله تعالى: **إذا اهتديتم} وعلى هذا يكون معنى الآية: إذا سلكتم طريق الهداية، ومن جملته أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر، حينئذ لا يضركم إعراض المعرضين، ولا ضلال الضالين، فإنه **لا تزر وازرة وزر أخرى} (الإسراء:15). ويرشح ما ذكرناه، أن الخطاب في الآية الكريمة إنما جاء بصيغة الجمع: **عليكم أنفسكم} و{لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} وليس بصيغة المفرد، فالمخاطبون في الآية هم جماعة المؤمنين، وليست الآية خطاب لأفراد مستقلين. إذن، فليس في آية المائدة ما يعارض آية آل عمران؛ وليس فيها إطلاقًا ما يفيد أن تتخلى الأمة المسلمة عن تكاليفها في دعوة الناس كلهم إلى الهدى والرشاد. بل الذي تفيده عموم أدلة الشريعة -ومنها هذه الآية- وجوب دعوة الآخرين إلى هدى الله وشرعه. فإذا أقامت الأمة شرع الله في نفسها أولاً، تعيَّن عليها أن تدعوا الناس كافة، وأن تحاول هدايتهم. وهكذا، فكما صحَّح الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه فهمًا معكوسًا لمقتضى آية المائدة، فكذلك نحن اليوم أحوج ما نكون إلى هذا التصحيح؛ لأن القيام بتكاليف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد صارت أشق على النفس، وأشد وطئًا. ،،،،،،،،، نسوا الله فنسيهم من الثابت في أصول العقيدة الإسلامية أن الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الكمال، ومنـزَّه عن صفات النقص، وقد قال تعالى مقررًا هذه العقيدة غاية التقرير: **ليس كمثله شيء} (الشورى:11)، وقال سبحانه أيضًا: **أفمن يخلق كمن لا يخلق} (النحل:17)؛ والعقل يقتضي كذلك، أن الخالق غير المخلوق. وقد وردت في القرآن الكريم بعض الآيات، تتحدث عن نسبة النسيان لله سبحانه، من ذلك قوله تعالى: **نسوا الله فنسيهم} (التوبة:67)؛ وبالمقابل، فقد وردت آيات أخرى، تنفي عنه سبحانه صفة النسيان، كقوله عز وجل: **وما كان ربك نسيا} (مريم:64). وقد يبدو للوهلة الأولى، أن بين الآيتين تعارضًا؛ فكيف السبيل لرفع ما يبدو من تعارض ظاهر؟ لقد أجاب أغلب المفسرين عن هذا التعارض، بأن قالوا: إن النسيان يطلق على معنيين؛ أحدهما: النسيان الذي هو ضد الذكر ومقابل له، وهو الحالة الذهنية التي تطرأ على الإنسان، فتغيِّب عن ذاكرته بعض الأمور؛ ثانيهما: يطلق النسيان ويراد به (الترك)؛ قالوا: والنسيان بمعنى (الترك) مشهور في اللغة، يقال: أنسيت الشيء، إذا أمرت بتركه؛ ويقول الرجل لصاحبه: لا تنسني من عطيتك، أي: لا تتركني منها. وبناء على هذا المعنى الثاني للنسيان، وتأسيسًا عليه، وجهوا قوله تعالى: **نسوا الله فنسيهم}، فقالوا: إن الآية جاءت على أسلوب المشاكلة والمقابلة والمجاراة، وهو أسلوب معهود في كلام العرب، بحيث يذكرون الشيء بلفظ غيره؛ لوقوعه في صحبته؛ وبحسب هذا الأسلوب، جاء قول عمرو بن كلثوم في معلقته المشهورة: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا فسمى جزاء الجهل جهلاً؛ مصاحبة للكلام، ومشاكلة له. ومنه قول جحظة البرمكي، وقد دُعي إلى طعام في يوم بارد، وكان لا يجد ثوبًا يقيه ألم البرد، قال: قالوا: اقترح لونًا يجاد طبخه قلت: اطبخوا لي جبة وقميصًا فعبر الشاعر عن حاجته لما يقيه ألم البرد بفعل الطبخ، وإنما فعل ذلك مجارة ومشاكلة لمقدم الكلام. وعلى هذا الأسلوب جاء القرآن أيضًا، كما في قوله تعالى: **وجزاء سيئة سيئة مثلها} (الشورى:40)؛ إذ من المعلوم أن السيئة الأولى من صاحبها سيئة؛ لأنها معصية من فاعلها لله تبارك وتعالى، أما الثانية فهي عدل منه تعالى، لأنها جزاء من الله للعاصي على معصيته، فالكلمتان وإن اتفقتا لفظًا، إلا أنهما اختلفتا معنى؛ فالأولى على الحقيقة، والثانية على المقابلة. ومن هذا الباب أيضًا، قوله تعالى: **فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} (البقرة:194)، فالعدوان الأول ظلم، والثاني جزاء لا ظلم، بل هو عين العدل، لأنه عقوبة للظالم على ظلمه، وإن وافق لفظه لفظ الأول. وجريًا على هذا الأسلوب جاء قوله تعالى: **نسوا الله فنسيهم}، أي: تركوا طاعة الله، وأعرضوا عن اتباع أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته. قال أهل التفسير، وعلى هذا التوجيه يُفهم كل ما في القرآن من نظائر ذلك؛ كقوله تعالى: **يخادعون الله وهو خادعهم} (البقرة:142)، **ومكروا ومكر الله} (آل عمران:54)، وقوله سبحانه: **ويمكرون ويمكر الله} (الأنفال:30)؛ فليس المقصود من هذه الآيات، وصفه سبحانه بالخداع والمكر، فالله سبحانه منـزه عن مثل هذه الصفات وما شابهها، وإنما المراد من هذا الأسلوب المجاراة والمقابلة، على ما تقدم. وحمل (النسيان) في حقه تعالى على معنى (الترك) أمر متعين؛ إذ لا يستقيم في حقه سبحانه أن يوصف بالنسيان؛ لأن النسيان من صفات النقص في البشر، والله سبحانه موصوف بصفات الكمال والجلال، وهو منـزه عن صفات النقص. وبحسب هذا التوجيه للآية، يمكننا أن نفهم قوله سبحانه: **فاليوم ننساهم} (الأعراف:51)، وقوله عز من قائل: **وكذلك اليوم تنسى} (طه:126)؛ فليس المقصود بالنسيان هنا المعنى الأول، وإنما المقصود منه المعنى الثاني، الذي هو معنى الترك. وعلى هذا المعنى، يكون النسيان الوارد في قوله تعالى **نسوا الله}، هو النسيان المقصود والمتعمد، على معنى أنهم لم يأخذوا بأوامر الله، وتركوها وراء ظهورهم؛ ولذلك استحقوا الذم والعقوبة. بخلاف ما لو حُمل النسيان على المعنى المعروف، فإنهم لم يكونوا يستحقوا ذمًا ولا عقابًا؛ لأن النسيان - كعارض من العوارض البشرية - ليس في وسع البشر دفعه ولا منعه، بل هو من مقتضيات الطبيعة البشرية؛ ومن المعلوم شرعًا أن النسيان المعهود من البشر لا يحاسب عليه الإنسان، وإن كان لا يسقط به التكليف. وختامًا نقول: إن قوله تعالى: **نسوا الله فنسيهم}، وما شابهه من آيات، لا يتعارض مع قوله سبحانه: **وما كان ربك نسيا} ونحوها من الآيات؛ إذ المراد من النسيان في الآية الأولى (الترك)؛ أما النسيان في الآية الثانية، فالمراد منه معناه المعهود بين الناس، والآية نافية له في حق الله سبحانه. .............. الحسد بين المدح والذم
الحسد صفة مَرضِيِّة مذمومة، وهو من أشد أمراض القلوب فتكًا بصاحبه؛ ومن كلامهم فيه: لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله وقد نهى صلى الله عليه وسلم أمته عن التلبس بهذه الصفة، فقال: (لا تحاسدوا)؛ وكان من جملة ما أخبر به عليه الصلاة والسلام أمته بأن قال: (دب إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء) رواه الترمذي. والقرآن الكريم نهى المؤمنين عن تمني ما للآخرين من نعمة، وطلب منهم التوجه بالسؤال إلى الله؛ طلبًا لفضله، وأملاً بعطائه، فقال تعالى: **ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله} (النساء:32)، وقد فُسرت الآية الكريمة بالحسد، وهو تمني الرجل نفس ما أُعطيَ أخوه من نعمة، بحيث تنتقل تلك النعمة إليه؛ وفُسرت كذلك بتمني ما هو ممتنع شرعًا، كتمني النساء أن يكون لهن مثل ما للرجال من الفضائل الدينية كالجهاد، والفضائل الدنيوية كالمساواة في الميراث، والإدلاء في الشهادات؛ أو تمني ما هو ممتنع قدرًا، كتمني النساء أن يكن رجالاً، وأن يكون لهن من القوة ما لهم، أو كتمني أحد من هذه الأمة، أن يكون نبيًا بعد ما أخبر الله تعالى، أن نبينا صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. بالمقابل، نقرأ في سُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قوله: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق؛ ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها) متفق عليه. وظاهر هذا الحديث يدل على أن الحسد مذموم إلا في خصلتين اثنتين، فهو فيهما محمود وممدوح؛ وهاتان الخصلتان هما: طلب العلم للعمل والتعليم، وطلب المال لإنفاقه في أبواب الخير. وربما يشكل هذا الحديث مع ما جاء في الآية السابقة، الناهية عن تمني ما في أيدي الآخرين من نعمة وفضل؛ ووجه ذلك، أن الآية الكريمة أطلقت النهي عن تمني ما فضَّل الله به بعض عباده على بعض؛ في حين أن الحديث الشريف نهى عن الحسد عمومًا، واستثنى منه أمرين: طلب العلم، وطلب المال. فكيف نفهم نهي الآية واستثناء الحديث؟ لقد تعرض شرَّاح الحديث لهذا الإشكال، وأجابوا عنه بأن قالوا: إن الحديث حضَّ على تمني مثل النعمة التي أنعم الله بها على بعض عباده؛ بينما الآية الكريمة نهت عن تمني عين تلك النعمة؛ وبعبارة أوضح: إن الحديث وجَّه المؤمن إلى تمني أن يكون له مثل ما للآخرين من نِعَم، دينية كانت أو دنيوية؛ أما الآية فقد نهت المؤمن عن تمني حصول النعمة ذاتها التي أنعم الله بها على بعض عباده. وعلى هذا تكون الآية نهت عن تمني الإنسان ما في يدي غيره، بحيث تخرج من يده وتصير إليه؛ في حين أن الحديث رغب المؤمن أن يتمنى أن يكون له من الخير مثل ما للآخرين، من غير أن تزول تلك النعمة عنهم. ومما يلقي مزيد ضوء على توضيح هذا الإشكال، أن العلماء قسموا الحسد إلى قسمين، أحدهما: محمود؛ والثاني: مذموم؛ فأما الحسد المحمود، فيسمى حسد الغبطة، وهو أن يتمنى الإنسان أن يكون له مثل ما للآخرين، من غير أن تزول تلك النعمة عنهم؛ أما الحسد المذموم -وهو المراد عند الإطلاق- فهو أن يتمنى المرء زوال النعمة عن الغير، سواء عادت تلك النعمة إليه، أم عادت إلى غيره. وانطلاقًا من هذا التقسيم للحسد، يمكن أن نفهم أن الحسد المنهي عنه في الآية هو الحسد المذموم، وهو تمني زوال النعمة عن الغير؛ أما الحسد الذي رغَّب فيه الحديث النبوي فهو حسد الغبطة؛ وشتان ما بينهما. وبحسب ما تقدم، يتضح وجه التوفيق بين ما يبدو من تعارض بين الآية والحديث. واعلم أن ما قيل في التوفيق بين الآية وهذا الحديث، يقال أيضًا في الحديث الآخر، وفيه قوله صلى عليه وسلم: (إنما الدنيا لأربعة نفر: عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه، ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا، فهذا بأفضل المنازل؛ وعبد رزقه الله علمًا، ولم يرزقه مالاً، فهو صادق النية، يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو نيته، فأجرهما سواء؛ وعبد رزقه الله مالاً، ولم يرزقه علمًا، فهو يخبط في ماله بغير علم، لا يتقي فيه ربه، ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم لله فيه حقًا، فهذا بأخبث المنازل؛ وعبد لم يرزقه الله مالاً ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالاً لعملت فيه بعمل فلان، فهو نيته، فوزرهما سواء) رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. ومما هو وثيق الصلة بموضوع المقال أن يقال: لا بأس أن يغبط المؤمنُ المؤمنَ على ما يفعله من أعمال البر، وأن يتمنى أن لو فعل مثل ما فعله، ويعمل على تحصيل ذلك؛ بل إن المؤمن حقًا مطالب بأن ينظر في أمور الدين إلى من هو فوقه، وأن ينافس في طلب ذلك جهده وطاقته، كما قال تعالى: **وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26)؛ فإذا فاقه أحد في فضيلة دينية، اجتهد أن يلحق به، وحزن على تقصيره وتخلفه عمن سبقه؛ لا حسدًا لهم على ما آتاهم الله، بل منافسة لهم، وغبطة وحزنًا على النفس بتقصيرها وتخلفها عن درجات السابقين؛ وكذلك في أمور الدنيا، لا حرج على المؤمن أن يطلب من أمرها ما يكون مشروعًا ومقدورًا عليه. اسلام ويب يتبع
----------------------------
مشاهدة جميع مواضيع امانى يسرى محمد |
امانى يسرى محمد |
مشاهدة ملفه الشخصي |
البحث عن المشاركات التي كتبها امانى يسرى محمد |
#2
|
||||
|
||||
![]()
أدخلوا آل فرعون أشد العذاب
أخبر القرآن الكريم عن آل فرعون، بأنهم أشد الناس عذابًا يوم القيامة، جاء ذلك الإخبار في قوله تعالى: **ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (غافر:46)؛ وقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن المصورين أشد الناس عذابًا يوم القيامة، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: (إن أشد الناس عذابًا عند الله يوم القيامة المصورون) متفق عليه . والمتأمل في الآية والحديث، قد يبدو له شيء من التعارض بينهما؛ وقد أثار بعض أهل العلم هذا الإشكال بين الآية والحديث، ووفق بينهما بأحد وجوه ثلاثة: أولها: أن لفظ الحديث قد جاء في رواية ثانية، فيها زيادة (من)، ونص الحديث: (إن من أشد أهل النار يوم القيامة عذابًا المصورون) رواه مسلم. ومعنى الحديث على الرواية الثانية: إن من يفعل فعل التصوير، يكون من أشد الناس عذابًا يوم القيامة؛ ولا يقتضي هذا أن يكون أشد من آل فرعون عذابًا، بل يقتضي أنه مشارك له في شدة العذاب؛ فيكون كل واحد من هؤلاء مشترك مع الآخر في شدة العذاب. يرشد لهذا التوجيه للحديث أمران؛ أحدهما: أنه ليس في الآية ما يقتضي اختصاص آل فرعون بأشد العذاب، بل غاية ما فيها، أن آل فرعون سينالهم أشد العذاب، وهذا لا ينفي أن يشاركهم غيرهم في هذه الشدة. ثانيهما: قوله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة رجل قتله نبي، أو قتل نبيًا، وإمام ضلالة، وممثل من الممثلين) رواه أحمد؛ ووجه دلالة الحديث هنا، أن شدة العذاب شملت أنواعًا مختلفة من الناس، كالذي يقتل نبيًا من الأنبياء، أو من يقتله نبي، وكالإمام الضال، ونحو ذلك. فدل ذلك على أن شدة العذاب ليست محصورة، بآل فرعون فحسب، وإنما قد يشاركهم بها غيرهم، ممن شاركهم في جنس فعلهم. وعلى هذا الوجه الأول، يكون قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى: (إن أشد الناس عذابًا)، محمولاً على قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: (إن من أشد)، بمعنى أن إطلاق الرواية الأولى، مقيد بتقييد الرواية الثانية، وهذا التقييد لا يقتضي أن يكون المصورون أشد عذابًا من فرعون يوم القيامة. ثانيها: إن الوعيد المخبر عنه في حق المصورين؛ إن ورد في حق كافر، فلا إشكال فيه؛ لأنه يكون مشتركًا في ذلك مع آل فرعون، ويكون فيه دلالة على عظم كفر من يفعل ذلك. وإن ورد الوعيد في حق عاصٍ، فيكون أشد عذابًا من غيره من العصاة، ويكون ذلك دالاً على عظم معصيته. ثالثها: أن (الناس) الذين أضيف إليهم لفظ (أشد)، لا يراد بهم كل الناس، بل بعضهم، وهم الذين يشاركون فرعون في المعنى المتوعد عليه بالعذاب؛ ف فرعون أشد الناس الذين ادعوا الألوهية عذابًا، ومن يقتدي به في ضلالة كفره، أشد عذابًا ممن يقتدي به في ضلالة فسقه؛ فمن يصور صورة ذات روح بقصد العبادة، أشد عذابًا ممن يصورها لغير قصد العبادة. هذا، وقد نقل ابن بطال في شرحه على (صحيح البخاري) جوابًا للإمام الطبري في الجمع بين الآية والحديث، حاصله: أنه ليس في خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف لما في خبر القرآن، بل هو له مصدق؛ وذلك أن المصور الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه أن له أشد العذاب، هو الذي وصفه صلى الله عليه وسلم، بقوله: (أشد الناس عذابًا يوم القيامة، الذين يضاهون بخلق الله) متفق عليه؛ أي: يشبهون ما يصنعونه بما يخلقه الله؛ و فرعون من هؤلاء، حيث أخبر قومه بقوله: **أنا ربكم الأعلى} (النازعات:24)، بل تجرأ على الله أكثر من ذلك حين قال: **ما علمت لكم من إله غيري} (القصص:38)؛ وعلى هذا، يكون المصور بهذا القصد، مشاركًا لـ فرعون ومن تبعه في شدة العذاب، من جهة أن كل واحد منهما ادعى التشبه بالخالق، والتشبيه بما يخلق. هذا حاصل ما ذكره أهل العلم، في الجمع بين الآية والحديث. ونحن نقول وراء ذلك: إن لفظ (أشد) -وهو من صيغ المفاضلة- يمكن أن لا يراد به حقيقته اللغوية، بل يراد منه عظم العذاب وشدته، دون أن يعني ذلك، أنه لا يكون ثمة عذاب آخر أشد منه أو مساويًا له. وحمل صيغ (المفاضلة) على غير حقيقتها اللغوية، أمر له أمثلة من القرآن، كقوله تعالى: **واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم} (الزمر:55)، فقوله سبحانه: **أحسن} اسم تفضيل، مستعمل في معنى: كامل الحسن، وليس في معنى تفضيل بعضه على بعض؛ لأن جميع ما في القرآن حسن. وأهل اللغة يعبرون عن هذا بقولهم: وصيغة المفاضلة هنا ليست على بابها، أي: لا يراد منها ما وضعت له لغة. نخلص مما تقدم، أن لا تعارض حقيقي بين الآية والحديث، بل هما متفقان تمام الاتفاق، ومتوافقان غاية الوفاق؛ فالآية تخبرنا بعظم العذاب الذي سيلحق بفرعون ومن تبعه يوم القيامة، والحديث يخبرنا بأن من فعل فعلاً يشابه به خلق الله له عذاب شديد. .................. قل أمر ربي بالقسط هناك من الآيات القرآنية ما قد يفهم البعض من ظاهرها، أن بينها تعارضًا وتناقضًا؛ ومن هذا القبيل قوله سبحانه في سورة الأعراف: **إن الله لا يأمر بالفحشاء} (الأعراف:28)، مع قوله تعالى في سورة الإسراء: **وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها} (الإسراء:16). فقد ذكر سبحانه في الآية الأولى، أنه لا يأمر أحدًا بفعل الفحشاء؛ في حين أنه سبحانه قد أخبر في آية الإسراء، أنه إذا أراد هلاك قرية، أمر مترفيها، ففسقوا فيها؛ وقد يفهم البعض من ذلك، أن الله يمكن أن يأمر بالفسق!! فهل هناك تعارض بين الآيتين ؟ وما هو السبيل لرفع ما يبدو بينهما من تعارض؟ ومن المهم لرفع ما يبدو من تعارض بين الآيتين الكريمتين، معرفة السياق الذي وردت فيه الآيات؛ مما يساعد على فهمها فهمًا سليمًا، ويزيل ما يبدو بينها من تعارض. وقد جاءت آية الأعراف في سياق الرد على أهل الجاهلية، وإنكار الممارسات التي كانوا يفعلونها، من طوافهم بالبيت وهم عراة، ودعوى أن الله أمرهم بذلك؛ فجاء الرد القرآني حاسمًا، ليقرر مبدأ مهمًا، وهو أنه سبحانه **لا يأمر بالفحشاء}، وإنما يأمر بالقسط **قل أمر ربي بالقسط} (الأعراف:29) فالآية واضحة صريحة في أن أمره سبحانه لا يكون بما هو فاحش ومنكر، وإنما يكون بما هو قسط وحق. أما آية الإسراء فقد جاءت لتقرر سنة إلهية، لا تتبدل على مر العصور والأزمان، ولا تتغير باختلاف الأماكن والبلدان؛ وهي أن بقاء الأمم ودوامها مرتبط بإقامة أوامر الله، والعمل بشرعه؛ وأن هلاكها إنما يكون بانتهاك حرمات الله، وتعدي حدوده؛ فهناك سبب وهو الفسوق، وهناك نتيجة وهي الهلاك؛ وليس معنى الآية - كما قد يتبادر إلى الفهم - أن الله يأمر الناس بالفسق، فيفعلوا المعاصي ويرتكبوا المحرمات، ثم ينـزل الله بهم الهلاك، فهذا الفهم ليس مراد الآية، وليس هو من دلالتها، بل هو فهم مخالف لها، ومعارض لأدلة أخرى، تفيد أنه سبحانه لا يأمر عباده بغير العدل والخير. وقد وردت آيات عديدة توضح المقصود من آية الإسراء؛ من ذلك قوله تعالى: **وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون} (هود:117)؛ فهذه الآية صريحة في أنه سبحانه ما كان ليهلك أهل القرى، إذا كانوا عاملين بأوامر الله، ومجتنبين لنواهيه؛ فهي تبين الوجه المقابل لما قررته آية الإسراء؛ فإذا كانت آية الإسراء قد علقت هلاك أهل القرى على فسقهم ومعصيتهم؛ فإن هذه الآية قد قررت أنه سبحانه لا يهلك أهل القرى ما داموا صالحين. والقرآن يفسر بعضه بعضًا. والذي يوضح ويؤكد أن آية الإسراء ليس فيها ما يدل على أن الله تعالى يأمر عباده بالفسق، أنها لم تعين المأمور به، بل سكتت عنه؛ فالآية تقول: **أمرنا مترفيها}، ولم تصرح بطبيعة المأمور به، هل هو الفسق أم هو الطاعة؛ والذي يعين أحدهما اللغة، والسياق الذي وردت فيه الآية، وأدلة قرآنية أخرى. أما اللغة، فأنت تقول: أمرت ولدي فعصاني، ولا يعني ذلك أبدًا: أنك أمرته بالمعصية، وإنما يدل على أن المعصية ترتبت على أمرك إياه، وهو أمر طبيعي؛ لأن المعصية فرع عن الأمر. وأما السياق الذي وردت فيه الآية، فإنه يوضح أن المأمور به هو الدعوة إلى الاستقامة وعمل الصالحات؛ فقبل هذه الآية نقرأ قوله تعالى: **إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا} (الإسراء:9)، وبعدها نقرأ قوله تعالى: **ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا} (الإسراء:19)، وإذا كان السياق يفيد أن المقصود طلب فعل الطاعات، فمن غير الصواب - حينئذ - فهم الآية على أنها أمر من الله لعباده بالفسق؛ وبالتالي فإن المصير إلى هذا الفهم السقيم من الضلال البعيد. أما الأدلة القرآنية فكثيرة، منها قوله تعالى: **إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} (النحل:90) وهو نص واضح في أن أمره تعالى لا يكون إلا بطاعة وخير، ولا يأمر سبحانه بفسق أو فحشاء. وهذا أمر من صلب عقيدة المؤمن، لا يقول بخلافه إلا من نزع الله الإيمان من قلبه. وبذلك يكون المعنى الصحيح للآية، أن يقال: أمرنا مترفيها بطاعتنا وبمنهجنا، ولكنهم خالفوا وعصوا وفسقوا؛ فحق عليهم العذاب؛ ويكون من الخطأ أن نفهم من الآية: أنه سبحانه أمر أهل القرية بالفسوق، ليُنـزل بهم عليهم العقوبة والهلاك. وما تقدم هو الوجه الراجح في تفسير الآية الكريمة؛ وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أمرنا مترفيها بطاعة الله، فعصوا. وعلى هذا القول يكون في الآية كلام مقدر، مستفاد من السياق، أو من أدلة أخرى؛ وعليه فلا يكون هناك تعارض ولا إشكال بين هذه الآية وآية الأعراف. على أن آية الإسراء تقتضي التنبيه إلى أمرين، يساعدان على إلقاء مزيد من الضوء حول معنى الآية: الأول: يتعلق بالمقصود بالمترفين، ووجه اختصاصهم بالذكر؛ فالمترفون هم أهل النعمة وسعة العيش، وتعليق الأمر بهم على وجه الخصوص، مع أن الرسل يخاطبون جميع الناس؛ لأنهم عادة في موقع القيادة والزعامة، والناس تبع لهم، فكان من المنطقي أن يتوجه الخطاب إليهم دون غيرهم، فإذا فسقوا عن الأمر، اتبعهم الأتباع وضعاف القوم، فعم الفسق أو غلب على القرية، فاستحقت الهلاك. الثاني: يتعلق بوجه العلاقة بين إرادة الله إهلاك القرية، وبين أمر المترفين، فهي علاقة السبب بنتيجته؛ ففعل المترفين هو السبب، وإرادة إهلاك القرية هو النتيجة لذلك الفعل؛ وعليه فلا يقال: إن إرادة الله سبب مؤد إلى فسوق المترفين، ونزول الهلاك بأهل القرى؛ فحاشا لله أن يريد إهلاك قوم قبل أن يأتوا بما يستوجب هلاكهم، وليس من الحكمة الإلهية أن يسوقهم إلى ما يفضي إلى مؤاخذتهم. ولابن عاشور كلام مفيد في تفسيره (التحرير والتنوير)، يحسن الرجوع إليه في هذا المقام. وقد ذكر المفسرون وجوهًا أخرى للتوفيق بين الآيتين الكريمتين، نذكر منها ما يلي: الأول: أن يكون معنى **أمرنا}: كثَّرنا، من الكثرة؛ أي: كثرناهم حتى بطروا النعمة، ففسقوا؛ ومجيء (الأمر) بمعنى الكثرة والتكثير له أدلة من اللغة والشرع؛ وقد جاء في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: (خير مال المرء له مهرة مأمورة) رواه أحمد؛ أي: كثيرة النسل؛ وفي حديث أبي سفيان مع هرقل قوله: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أي: كثر وعظم. الثاني: أن يكون معنى **أمَّرنا} بتشديد الميم، من الإمارة؛ أي: جعلناهم أمراء، ففسقوا؛ لأن الأغلب ممن يتولى أمر الناس، أن لا يراعي حكم الله فيهم. وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى الآية: سلطنا أشرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب. وهو قوله تعالى: **وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها} (الأنعام:123). الثالث: أن يكون (الأمر) في قوله سبحانه: **إن الله لا يأمر بالفحشاء} هو من باب الأمر الشرعي، المطلوب فعله من العباد؛ وأن ( الأمر ) في قوله تعالى: **أمرنا مترفيها} هو من باب الأمر القدري، الذي لا يخرج عنه شيء في هذا الكون. ولهذا أدلة من القرآن، وتفصيل الكلام فيه له مقام آخر. ويتضح من مجموع ما قيل في معنى آية الإسراء، أن هذه الآية الكريمة لا تعارض قوله تعالى: **إن الله لا يأمر بالفحشاء} بل إن كل منهما تقرر حقيقة لا تعارض الأخرى ولا تخالفها؛ فآية الأعراف تقرر عقيدة إيمانية، وآية الإسراء تقرر سنة إلهية، لا تتخلف ولا تتبدل. خصوص الذنب وعموم العقاب في القرآن الكريم آيات كثيرة ترشد إلى أن الإنسان لا يتحمل عقاب ذنب فعله إنسان غيره، ولا يحاسب على جرم ارتكبه شخص آخر، من تلك الآيات قوله تعالى: **ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى} (الأنعام:164)، وقوله سبحانه: **كل امرئ بما كسب رهين} (الطور:21)، ونحو ذلك من الآيات التي تقرر هذا المعنى. اسلام ويب
بالمقابل ثمة آيات أخرى، تفيد أن العقاب يلحق بمن ليس له يد في فعله أو ارتكابه، نقرأ في ذلك قوله تعالى: **واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة} (الأنفال:25)، ونحو هذا قوله تعالى: **وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} (الإسراء:16). فهاتان الآيتان تدلان على أن العقاب يعمُّ الناس جميعاً، مع أن الذنب والمعصية لم يكن منهم جميعاً، بل كان من فئة خاصة ومحددة، فئة الظالمين في الآية الأولى، وفئة المترفين في الآية الثانية. وقد يبدو للقارئ العَجِل أن بين هذه الآيات تعارضاً وتناقضاً، من جهة أن بعضها يخصص العقاب بفاعل الذنب فحسب، والبعض الآخر يعمم العقاب على الفاعلين وعلى غير الفاعلين، وذلك لا يستقيم في شرائع البشر، فكيف يستقيم في شريعة خالق البشر؟ هذا وجه التعارض بين الآيات الآنفة الذكر. وقد أجاب أهل العلم على هذا السؤال جواباً يزيل الإشكال، ويرفع ما يبدو من تعارض وتناقض بين تلك الآيات، فقالوا: إن الأصل في العقاب أن يكون خاصاً، لكن لما كان الناس يعيشون في مجتمع واحد، ويتقاسمون معاً أفراح الحياة وأتراحها، كان عليهم أن يتحملوا المسؤولية الجماعية في بناء هذا المجتمع، ووضعه على مساره الصحيح، فإذا حاول البعض أن يخرق هذا المسار، أو أن يغير من اتجاهه، فإنه يتعين على الآخرين الأخذ على يده، وإعادته إلى جادة الصواب والرشاد، فإذا لم يفعلوا ذلك كان عليهم أن يتحملوا نتيجة ذلك التقصير. إذن العقاب من حيث الأصل شخصي وفردي وهو جار كذلك، إذا لم يكن للذنب المرتكب تأثير على المجتمع، أما إذا كان الذنب يتعدى حدود الشخص وحدود الفرد، فإن على المجتمع في مثل هذه عليه الحالة أن يتحرك ليحفظ جانبه، ويحمي أمنه، فإن لم يفعل ذلك كان مقصراً، وبالتالي عليه أن يتحمل عاقبة هذا التقصير. ونمثل لذلك بمثال يقرِّب الأمر، ويوضح المسألة، فنقول: إن الولد إذا فعل فعلاً مضراً بالآخرين، كأن يسب أو يشتم أهل الحي الذي يقيم فيه، أو يسرق بيتاً من بيوت ذلك الحي، أو يفعل شيئاً من هذا القبيل، فلا يمكن والحالة هذه أن نحاسب الولد فحسب، من غير أن نحاسب أباه أيضاً، فإن أباه مشارك له في كل ما فعل، ويتحمل قسطاً من المسؤولية والمحاسبة على فعل ولده؛ لأنه قصر في توجهيه توجيهاً سلمياً، وأهمل تنشئته تنشئة صالحة، وبالتالي كان عليه أن يتحمل جزاء ما قام به ولده، وليس له أن يقول: إن هذا من فعل ولدي، ولا أتحمل جزاء ما فعل. وعلى هذا النحو يقال فيما نحن بصدده من الآيات، وذلك أن الناس إذا قصَّروا في واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان ذلك مدعاة لعموم العقاب، وسبباً لنـزول العذاب، وليس لهم أن يقولوا: ليس الذنب ذنبنا، وليس من العدل عقابنا؛ لأنا نقول: ما داموا مسلمين، ويعيشون في هذا المجتمع معاً، ويتحملون جزءاً من التبعة والمسؤولية، كان عليهم ألا يدعوا الظالم يتمادى في ظلمه، وألا يتركوا أهل الغيِّ يسترسلون في غيهم، بل عليهم أن يأمروا بكل ما هو معروف، وأن ينهوا عن كل ما هو منكر، فإذ هم لم يفعلوا ذلك، فعليهم أن يتحملوا عاقبة أمرهم. قال ابن العربي القرطبي مقرراً هذا المعنى: "إن الناس إذا تظاهروا بالمنكر، فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص. هذا بفعله وهذا برضاه. وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضيَ بمنـزلة العامل". وهذا المعنى الذي قررناه آنفاً، تشهد له أحاديث عديدة، تشد من أزره، وتأخذ بيده إلى مصافِّ السنن الكونية التي أقام الله عليها أمر الحياة، **ولن تجد لسنة الله تبديلا} (الأحزاب:62). فمن تلك الأحاديث التي تؤكد على هذا الواجب الاجتماعي، واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قوله صلى الله عليه وسلم: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها، إذا استقوا من الماء، مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً، ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا، هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً) رواه البخاري. ومعنى (استهموا) اقترعوا، أي: اقترعوا من يجلس في أعلى السفينة، ومن يجلس في أسفلها. قال القرطبي بعد أن ساق هذا الحديث: "ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة. وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال علماؤنا: فالفتنة إذا عملت هلك الكل. وذلك عند ظهور المعاصي، وانتشار المنكر وعدم التغيير". ومنها ما ورد في "الصحيحين" عن زينب بنت جحش رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم استيقظ من نومه فزعاً، وهو يقول: (لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج...)، قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: (نعم، إذا كثر الخبث)، و(الخبث): الزنى. ومنها ما صحَّ عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: يا أيها الناس! إنكم تقرؤون هذه الآية: **يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} (المائدة:105)، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يده، أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه)، رواه أصحاب السنن إلا النسائي. ومنها ما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل، كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا! اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحلُّ لك، ثم يلقاه من الغد، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك، ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ثم قال: **لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم} (المائدة:78)، إلى قوله: **فاسقون} (المائدة:81)، ثم قال: كلا، والله لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يدي الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً) رواه أبو داود. ومعنى (لتأطرنه)، أي: لتحملنه على الحق والصواب، ولو عن غير إرادة منه. وفي لفظ آخر عند الترمذي: (والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)، قال الترمذي: حديث حسن. وفي مسند الإمام أحمد أن عديًّا رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة، حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك، عذَّب الله الخاصة والعامة). وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: **واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة}، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يُقرُّوا المنكر بين ظهرانيهم، فيعمهم الله بالعذاب. قال ابن كثير معقباً على قول ابن عباس: وهذا تفسير حسن جداً. وقد يقال أيضاً: إن الآيات التي خصت الجزاء بفاعل الذنب فحسب دون غيره محمولة على عذاب الآخرة، فالأمر يومئذ ينطبق عليه قوله تعالى: **كل امرئ بما كسب رهين}، وينطبق عليه كذلك قوله سبحانه: **يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون} (انحل:111)، فكل إنسان يوم القيامة، يوم الحساب والجزاء، مرتهن بعمله، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. أما الآيات التي نصت على عموم العذاب، فمحمولة على العقاب الدنيوي، وينطبق عليها الآيات الناصة على عموم العقاب، كقوله سبحانه: **ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون} (الأعراف:96)، وقوله تعالى: **وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} (النحل:112). يرشد لهذا المعنى ما ثبت في "الصحيحين" من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (إذا أنزل الله بقوم عذاباً، أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على أعمالهم)، فالعذاب في الدنيا مشترك، أما في الآخرة فالحساب يكون بحسب الأعمال والنيات. ويرشد له أيضاً ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب جسمه، وتحركت أطرافه في منامه، فقالت: يا رسول الله! صنعت شيئاً في منامك لم تكن تفعله، فقال: (العجب: إن ناساً من أمتي يؤمون بالبيت برجل من قريش، قد لجأ بالبيت، حتى إذا كانوا بالبيداء خُسف بهم)، فقلنا: يا رسول الله! إن الطريق قد يجمع الناس، قال: (نعم، فيهم المستبصر، والمجبور، وابن السبيل، يهلكون مهلكاً واحداً، ويصدرون مصادر شتى، يبعثهم الله على نياتهم)، فالمَهْلَك واحد للجميع، أما المرجع والمآب فبحسب الأعمال والنيات. والمهم في الأمر، أن على الناس أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ويبذلوا غاية الوسع في القيام بهذا الواجب الاجتماعي، ولا ينبغي أن يَدَعُوا أهل الفساد يمرحون في المجتمع ويسرحون من غير أن يأخذوا على أيديهم، فإن لم يفعلوا ذلك، فإن العذاب لا شك نازل بهم. فهذه سنة الله في الأولين والآخرين **فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا} (فاطر:43).
----------------------------
مشاهدة جميع مواضيع امانى يسرى محمد |
امانى يسرى محمد |
مشاهدة ملفه الشخصي |
البحث عن المشاركات التي كتبها امانى يسرى محمد |